تكاد السلطات في الدولة الإسلامية لا تخرج عن خمس،هي: السلطة  التنفيذية والسلطة التشريعية , والسلطة القضاشية , والسلطة المالية وسلطة المراقبة والتقويم .

ويقوم الإمام باعتباره نائبا عن الأمة في مباشرة هذه السلطات في حدود ما أمر الله به من جعل كل أمور الحكم شورى بين المسلمين , وفي حدود ما أمر الله به الحاكم من استشارة أهل الرأي في كل أمور الحكم , وسنتكلم فيما يأتي على هذه السلطات واحدة واحدة .

أولا: السلطة التنفيذية

يقوم عليها رئيس الدولة وهو الإمام, ويختص بها وحده, فمن واجبه القيام بكل الأعمال التنفيذية لإقامة الإسلام وإدارة شئون الدولة في حدود الإسلام , ويدخل في هذا التعبير العام اختصاصات شتى أهمها تعيين الموظفين وعزلهم وتوجيههم ومراقبة أعمالهم, وقيادة الجيش وإعلان الحرب وعقد الصلح والهدنة وإبرام المعاهدات , وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام , ولاية الصلاة والحج وحمل الناس على ما يصلح أمورهم ويوجههم وجهة الإسلام صحيحة بما يسنه من لوائح و يصدره من أوامر , والعفو عما يجوز العفو عنه من الجرائم والعقوبات .

والأصل في الإسلام أن الإمام هو رئيس الدولة ومصرف أمورها والمسئول الأول عن أعمالها , ومسئولية الإمام ليست محدودة , وإنما هي مسئولية تامة فهو الذي يضع سياسة الدولة ويشرف على تنفيذها وهو الذي يهيمن على كل أمور الدولة ومصائرها .

وللإمام أن يستعين بالوزراء في القيام على شئون الدولة وتوجيه أمورها , و لكنهم مسئولون أمامه عن أعمالهم، وليس لهم سوى تنفيذ سياسته واتباع أوامره , ومركزهم منه مركز النواب عنه يعينهم ويقيلهم, وهم أفراد أو مجموعات, يستمدون سلطانهم منه وينوبون عنه فيما يباشرون من أعمالهم , وكل منهم يعتبر رئيسا اداريا للوزارة التي يشرف عليها , وآراؤهم وسياستهم لا تقيد رئيس الدولة ما لم يسكت عليهم حتى ينفذوها فيتقيد بما تم تنفيذه منها .

وإذا كان هذا هو الأصل في سلطة الإمام وسلطة الوزراء فإن التطورات التاريخية قد انتهت بجعل الوزارة على ضربين: وزارة تفويض ووزارة تنفيذ :

فأما وزارة التفويض فهي أن يستوزر الامام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضائها على اجتهاده , ووزير التفويض له اختصاص عام إلا أن عليه أن يطالع الإمام بما أمضاه من تدبير وأنفذه من عمل؛ لأنه مسئول عن كل عمله و ليس له أن يستبد بعمله على الإمام . و للإمام من جهته أن يتصفح أعمال الوزير وتدبيره الأمور ليقر منها ما وافق الصواب ويستدرك ما خالفه .

وأما وزارة التنفيذ فالنظر فيها مقصور على رأي الامام وتدبيره , وما الوزير إلا وسيط بينه وبين الرعايا والولاة يؤدي عنه ما أمر، وينفذ ما ذكر ويمضي ما حكم، ويعرض على الإمام ما ورد من الرعايا والولاة وما استجد من أحداث ليعمل فيها بما يؤمر به؛ فهو معين في تنفيذ الأمور وليس بوال عليها ولا متقلد لها .

ويفرقون بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ من أربعة وجوه .

أحدها : أنه يجوز لوزير التفويض مباشرة الحكم والنظر في المظالم، وليس ذلك لوزير التنفيذ .

والثاني : أنه يجوز لوزير التفويض أن يستبد بتقليد الولاة والموظفين وليس ذلك لوزير التنفيذ .

والثالث: أنه يجوز لوزير التفويض أن ينفرد بتيسيير الجيوش وتدبير الحروب وليس ذلك لوزير التنفيذ .

والرابع : انه يجوز لوزير التفويض أن يتصرف في أموال بيت المال بقبض ما يستحق له ويدفع ما يجب عليه، وليس ذلك لوزير التنفيذ .

وسواء كان الوزراء مفوضين أو منفذين فهم مسئولون أمام رئيس الدولة وله أن يقيلهم كلما خرجوا على أوامره وتوجيهاته أو انحرفوا عن سياسته في إدارة شئون الدولة .

ورئيس الدولة بدوره مسئول عن سياسته لأمور الدولة أمام أفراد الأمة بصفة وأمام أهل الشورى بصفة خاصة .

ثانياً: السلطة التشريعية

الأصل في الشريعة الإسلامية أنها جاءت للناس لتحكمهم في كل حالاتهم , وليحكموها في شئون دنياهم وآخرتهم , ولكن الشريعة مع هذا لم تأت بنصوص تفصيلية تبين حكم كل الحالات الجزئية والفرعية , وإنما اكتفت الشريعة في أغلب الأحوال بإيراد الأحكام الكلية والمبادئ العامة , فإذا تعرضت لحكم فرعي فنصت عليه فإنما تنص عليه لأنه يعتبر حكما كليا أو مبدأ عاما بالنسبة لما يدخل تحته من فروع أخرى .

والأحكام الكلية والمبادئ العامة التي نصت عليها الشريعة تعتبر بحق القواعد العامة للتشريع الإسلامي , والهيكل الذي يمثل معالم التشريع الإسلامي , والضوابط التي تحكم التشريع الإسلامي .

وقد تركت الشريعة لأولي الأمر والرأي في الأمة أن يتمّوا بناء التشريع على هذه القواعد , وأن يستكملوا هذا الهيكل فيبينوا دقائقه وتفاصيله في حدود المبادئ والضوابط التي جاءت بها الشريعة .

والطريقة التي التزمتها الشريعة في التشريع هي الطريقة الوحيدة التي تتلاءم مع شريعة كتب لها الدوام تقتضي أن لا ينص على حالات مؤقتة تتغير أحكامها بتغير الظروف وتوالي الأيام والسمو والكمال؛ فصفة الدوام تقتضي أن لا ينص على حالات مؤقتة تتغير أحكامها بتغير الظروف وتوالي الأيام.  والسمو والكمال يقتضيان النص على المبادئ والنظريات الإنسانية والاجتماعية التي تكفل حياة سعيدة للجماعة , وتحقق العدل والمساواة والبر والتراحم بين أفرادها .

وإذا كانت الشريعة قد أعطت أولي الأمر والرأي في الأمة حق التشريع فإنها لم تعطهم هذا الحق مطلقا من كل قيد؛ فحق هؤلاء التشريع مقيد بأن يكون ما يصنعونه من التشريعات متفقا مع نصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية . وتقييد حقهم في التشريع على هذا الوجه يجعل حقهم مقصورا على نوعين من التشريع :

(أ‌) تشريعات تنفيذية: يقصد بها ضمان تنفيذ نصوص الشريعة الإسلامية , والتشريع على هذا الوجه يعتبر بمثابة اللوائح والقرارات التي يصدرها الوزراء اليوم كل في حدود اختصاصه لضمان تنفيذ القوانين الوضعية .

(ب‌) تشريعات تنظيمية : يقصد بها تنظيم الجماعة وحمايتها وسد حاجتها على أساس مبادئ الشريعة العامة , وهذه التشريعات لا تكون إلا فيما سكتت عنه الشريعة فلم تأت فيه بنصوص خاصة .

ويشترط في هذا النوع من التشريعات أن يكون قبل كل شيء متفقا مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية , وإلا كان باطلا بطلانا مطلقا , فليس لأحد أن ينفذه وليس لأحد أن يطيعه .

ويمارس الإمام وحده السلطة التشريعية فيما يصدر من تشريعات تنفيذية؛ لأنها تعتبر من أعمال التنفيذ الحقيقة وإن كانت في شكلها تشريعا .

ويمارس الإمام بالاشتراك مع أهل الشورى السلطة التشريعية فيما عدا ذلك في حدود الشورى وبقيودها التي سبق بيانها , فإذا ما انتهت بهم الشورى إلى إقرار تشريع ما استقل الإمام بتنفيذه؛ لأنه هو القائم على سلطة التنفيذ.

ثالثاً: السلطة القضائية

مهمة هذه السلطة هي توزيع العدالة بين الناس والحكم في المنازعات والخصومات والجرائم والمظالم , واستيفاء الحقوق ممن مطل بها وايصالها إلى مستحقيها والولاية على فاقدي الأهلية والسفهاء والمفلسين , والنظر في الأوقاف وأموالها وغلاتها إلى غير ذلك مما يعرض على القضاء .

والإسلام يوجب على القضاة أن لا يجعلوا لأحد عليهم سلطانا في قضائهم , و أن لا يتأثروا بغير الحق و العدل , وأن يتجردوا عن الهوى وأن يسووا بين الناس جميعا :" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " النساء :58 , " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " ص : 26 , " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " النساء : 135 .

وتاريخ القضاء الإسلامي قاطع في القضاة كانوا دائما مستقلين في عملهم لا سلطان لأحد عليهم إلا الله , ولا يخضعون في قضائهم إلا لما يقضي به الحق والعدل .

من ذلك أن إبراهيم بن إسحق قاضي مصر سنة 104 هـ اختصم اليه رجلان فقضي على أحدهما فشفع إلى الوالي فأمره الوالي أن يتوقف في تنفيذ الحكم؛ فجلس القاضي في منزله حتى ركب إليه الوالي وسأله الرجوع إلى عمله , قال لا أعود إلى ذلك المجلس أبدا , ليس في الحكم شفاعة . ووقع بين أم المهدي وأبي جعفر المنصور خصومة , فتحاكما إلى غوث بن سليمان قاضي مصر , فحكم لصالح أم المهدي ضد الخليفة .

وقضي خير بن نعيم على أحد الجنود بالحبس فأخرجه الوالي من المحبس , فاعتزل خير بن نعيم وجلس في بيته، فلما طلب منه الوالي الرجوع لعمله قال لا حتى يعود الجندي إلى المحبس .

ولقد قضى شريح على عمر بن الخطاب في خلافته , وقضى ضد علي بن أبي طالب في خلافته , وكلاهما ترافع إليه وهو يعتقد أنه على حق , والأمثلة من هذا النوع كثيرة جدا .

والإمام هو الذي يولي القضاة بصفته نائبا عن الأمة , وله الإشراف عليهم و عزلهم بهذه الصفة ولا يعتبر القضاة بمجرد تعيينهم نوابا عن الإمام , إنما يعتبرون نوابا عن الأمة؛ ولذلك لا يعزلون عن عملهم بموت الإمام أو عزله , كما أن الإمام لا يملك عزلهم لغير سبب يوجب العزل .

وعلى هذا الأساس يعتبر القضاة سلطة مستقلة مصدرها الأمة , وإذا كان الإشراف على هذه السلطة للإمام فإنما يشرف عليها بصفته نائبا عن الأمة .

ويلاحظ أن التقاليد الإسلامية جرت من أول عهد الاسلام على أن يباشر رئيس الدولة القضاء , فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بين الناس وكذلك كان الخلفاء الراشدون , وكان المتفقهون من الخلفاء بعدهم يقضون , ثم انتهى الأمر إلى ترك القضاء للقضاة المختصين به , ولعل ذلك راجع إلى عدم المام الخلفاء بالفقه أو عدم مرانهم على القضاء .

القضاء وشرعية القوانين:

ويوجب الإسلام على القضاة أن يتصدوا لشرعية القوانين والنصوص , وأن لا يحكموا إلا بما أنزل الله , وبما هو تطبيق لمبادئ الإسلام العامة, وذلك قوله تعالى :" فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق " المائدة : 48 . و قوله " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " المائدة : 49 .

ويحرم الإسلام على المسلمين أن يحكموا بغير ما أنزل الله, ويعتبر من لم يحكم بما أنزل الله كافرا " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هو الكافرون " المائدة : 44 .

وهكذا نزلت نصوص القرآن بوجوب تصدي القضاة لشرعية القوانين التي يطلب إليهم تطبيقها , فإن كانت شرعية طبقوها وإلا أهملوها وطبقوا نصوص الشريعة أو تطبيقا لمبادئها العامة وروحها التشريعية .

وبذلك سبق الإسلام القوانين الوضعية بحوالي ثلاثة عشر قرنا في تقرير نظرية شرعية القوانين أو ما نسميه اليوم في عرفنا القانوني بنظرية دستورية القوانين .

رابعاً: السلطة المالية

و لقد أوجد الإسلام من يوم إنشاء الدولة الاسلامية سلطة مستقلة أخرى لم تكن معروفة من قبل ولم يعرفها العالم كله إلا في هذا القرن , تلك هي السلطة المالية , فقد كان الرسول صلى الله عليه و سلم يعين عمالا يستقلون بأمر القضاء . وعمالا يستقلون بأمر الإدارة وعمالا يستقلون بأمر الصدقات يجمعونها من الأغنياء في كل منطقة ليردوها على فقراء المنطقة , فما بقي منها نقل إلى بيت المال .

ولما فتح الله على المسلمين اتسع اختصاص القائمين على السلطة المالية فكان يشمل الصدقات والخراج والجزية والفيء والغنيمة , وكان المال الذي يجمع من هذه المصادر يوزع طبقا لما جاء في كتاب الله وعلى ما جرت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فما كان من نصيب أفراد معيين وطوائف معينة وزع عليهم , وما كان من حق الجميع أرسل إلى بيت المال ليوزع على الجميع وليأخذ كل منه بنصيب حتى لقد فرض عمر في بيت المال فروضا شهرية لكل رجل ولكل امرأة ولكل كبير وصغير , بل إنه فرض لكل طفل يولد بمجرد ولادته , وظلت هذه الفروض قائمة في بيت المال زمنا طويلا .

وكان عمر بن الخطاب يحلف على أيمان ثلاث يقول: "والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا بأحق به من أحد , ووالله ما من المسلمين أحد إلا و له في هذا المال إلا عبدا مملوكا , ولكنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم , فالرجل وبلاؤه في الإسلام, والرجل وقدمه في الإسلام والرجل وغناؤه في الإسلام , والرجل وحاجته , ووالله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه ".

وإذا كان عمر قد ميز بالسابقة والقدم في الإسلام , فميز المهاجرين على الأنصار وأصحاب بدر على غيرهم وهكذا, إلا أنه رأى أخيرا أن يعدل عن هذا التمييز ويعود إلى ما كان يفعله أبو بكر من التسوية بين الجميع .

وكان أبو بكر وعلي يسويان بين الناس في قسمة المال العام؛ أما عثمان فكان على ما كان عليه عمر من المفاضلة والتمييز , وكان أبو بكر يقسم بين الحر والعبد , أما عمر فمنع العبيد اجتهادا لأنهم لا ملك لهم , على أن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأمة ولا فرق بين الأمة والعبد . والتسوية أقرب إلى عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله؛ فقد سأله سعد بن مالك قال قلت يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم أيكون سهمه وسهم غيره سواء ؟ قال : " ثكلتلك أمك ابن أم سعد وهل ترزقون وتنتصرون إلا بضعفائكم ".

أما اعتبار المال مال الله ليس أحد أحق به من غيره فهو قوله صلى الله عليه وسلم " ما أعطيكم ولا أمنعكم إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت " وعن الرسول أخذ عمر مقالته , وعنه قال علي بن أبي طالب ما أثر عنه:"الا أن مفاتيح مالكم معي ألا وأنه ليس لي أن آخذ منه درهما دونكم ".

والإمام بصفته نائبا عن الأمة كلها هو المشرف على القائمين على السلطة المالية , يوليهم ويعزلهم ويراقبهم بصفته هذه , ولكنهم يعتبرون نوابا عن الأمة لا عنه بمجرد تعيينهم كما هو شأن القضاة , فما يعزلون بموت الإمام و لا يجوز له عزل أحدهم إلا بسبب يوجبه , ومما يؤثر في هذا الباب أن خازن بيت المال في عهد عثمان اعترض على صرف أموال لم ير جواز صرفها , فقال له عثمان انك خازن , فرد عليه بأنه خازن بيت مال المسلمين لا خازنه الخاص .

فالقائمون على السلطة المالية مستقلون في عملهم ليس لأحد عليهم سلطان إلا ما جاء به القرآن والسنة , فهو رائدهم يتبعونه و يلتزمونه , وعلى هذا جرى العمل حتى انحرف الحكام بالإسلام عن طريقه وحرفوا أحكامه .

والأموال التي تحصل محدودة النسب معلومة المقادير في الأموال العادية , و يمكن زيادتها في الأموال الاستثنائية بموافقة أهل الشورى إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة , وليس للقائمين على السلطة المالية أو للامام وهو المشرف عليهم أن يتصرفوا بأي حال في هذه الأموال إلا في الوجوه التي حددها الإسلام , وليس لهم أن يأخذوا منها لأنفسهم أكثر من مرتباتهم التي تحدد لهم في حدود حاجاتهم المختلفة وفي حدود قول الرسول:" من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا " قال أبو بكر أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق " وفي حدود قول الرسول :" من استخلفناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ".

خامساً: سلطة المراقبة والتقويم

هذه هي سلطة الأمة جمعاء في مراقبة الحكام و تقويمهم , وينوب عن الأمة في القيام بها أهل الشورى والعلماء والفقهاء .

وهذه السلطة مقررة للأمة من وجهين :

أحدهما: أن الأمة يجب عليها مراقبة الحكام و تقويمهم بما أوجب الله على الأمة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " آل عمران :110, " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون " آل عمران : 104 .

ولقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى الفساد فقال: " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم " وأوجب على كل قادر على تغيير المنكر أن يغيره ما استطاع لذلك سبيلا , وجعل أدنى درجات التغيير عند العاجز أن يكره المنكر بقلبه , وأن يبغض فاعليه ويمقتهم عليه :" ورأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان ".

وثانيهما : أن الأمة هي مصدر سلطان الحكام باعتبارهم نوابا عنها , وبما يلزم الله الحكام من الرجوع إلى الأمة واستشارتها في كل أمور الحكم والتزام ما يراه ممثلوها :" وشاورهم في الأمر" آل عمران : 159 , " ومرهم شورى بينهم " الشورى : 38 .

وإذا كانت الأمة هي مصدر سلطان الحكام , وكان الحكام نوابا عنها , فللأمة أن تراقبهم في كل أعمالهم , وأن تردهم إلى الصواب كلما أخطئوا , وتقومهم كلما اعوجوا .

وسلطة الأمة في مراقبة الحكام و تقويمهم ليست محل جدل؛ فالنصوص التي جاءت بها قاطعة في دلالتها و صراحتها, وخلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا أول من عمل بها وطبقها , وما عطل هذه النصوص وأنكر سلطان الأمة إلا الذين فسقوا عن أمر الله , واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة , نصبوا من أنفسهم جبابرة على هذه الأمة يسلبونها حقوقها , وينكرون سلطانها , ويستعملون عليها وما فعلوا ذلك وما جرأهم عليه إلا سكوت الأمة عن اقامة أمر ربها , وتهاونها في الدفاع عن حقوقها والتمسك بسلطانها .

ولقد ولى أبو بكر الحكم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول ما تفوه به هو اعترافه بسلطان الأمة عليه وحقها في تقويم اعوجاجه . خطب أول خطبة له بعد المبايعة فقال فيها :" أيها النس قد وليت عليكم ولست بخيركم إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني ".

وولى عمر الحكم فكان يقول في خطبة :" من رأى في اعوجاجا فليقومه " حتى قال له أعرابي : و الله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا .

وكان عثمان يقول :" إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فضعوا رجلي في القيد ".

وكان أول ما قاله علي :" إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم . الا إنه ليس لي أمر دونكم ".

بل كان عليه صلحاء الأمة في العصور الأولى فما كانوا يتأخرون في الدفاع عن حقوق الأمة وسلطانها كلما واتتهم الفرصة .

كان بين عمر بن الخطاب ورجل كلام في شيء فقال له الرجل اتق الله يا أمير المؤمنين , فقال له رجل من القوم أتقول لأمير المؤمنين اتق الله ؟ فقال عمر : دعه فليقلها لي نعم ما قال . لا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا , ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم .

وصعد عمر المنبر يوما وعليه حلة، والحلة ثوبان , فقال أيها الناس ألا تسمعون ؟ فقال سلمان لا نسمع . فقال عمر: ولم يا أبا عبد الله ؟ قال إنك قسمت علينا يوما ثوبا ثوبا وعليك حلة , فقال: لا تعجل يا أبا عبد الله , ثم نادى عبد الله فلم يجبه أحد فقال يا عبد الله بن عمر فقال لبيك يا أمير المؤمنين .. قال نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أو ثوبك ؟ قال اللهم نعم . فقال سلمان : أما الآن فقل نسمع .

وحبس معاوية العطاء عن الناس ذات مرة فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال له : يا معاوية إنه ليس من كدك ولا كد أبيك ولا كد أمك . فغضب معاوية ونزل عن المنبر وقال للناس مكانكم وغاب عنهم ساعة ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" الغضب من الشيطان , والشيطان خلق من النار وانما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليغتسل " وإني دخلت فاغتسلت وصدق أبو مسلم أنه ليس من كدي ولا من كد أبي فهلموا إلى عطائكم .

وأدخل أبو سفيان الثوري على أبي جعفر المنصور , فقال له ارفع إلينا حاجتك , فقال اتق الله فقد ملأت الأرض ظلما و جورا , فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال ارفع إلينا حاجتك , فقال إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار وأبناؤهم يموتون جوعا فاتق الله وأوصل اليهم حقوقهم , فطأطأ رأسه ثم رفع فقال: ارفع الينا حاجتك, فقال حج عمر بن الخطاب لخازنه كم أنفقت ؟ قال بضعة عشر درهما أرى هاهنا أموالا لا تطيق الجمال حملها , ثم خرج .

فهؤلاء لم يواجهوا الخلفاء هذه المواجهة إلا بما للأمة من سلطان مراقبة الحكام و تقويم اعوجاجهم , وما قبل منهم الخلفاء هذا التحدي وما استجابوا لهم إلا لعلمهم أن للأمة سلطانا , وأن عليهم أن يطأطئوا رءوسهم لهذا السلطان .

 من كتاب "الإسلام وأوضاعنا السياسية" للقاضي الشهيد الدكتور عبد القادر عوده رحمه الله