بقلم: د. عطية عدلان

ليس فقط لأنّه فَسَّرَ كتابَ الله فأبدعَ في تفسيره وتقريبه للجماهير بكافة شرائحها، ولكنْ لذلك ولأمور أخرى أعمق أثرا؛ كَرِهَتْ النخبةُ المنكوبةُ في بلادنا الشيخ محمد متولي الشعراوي، وليس من المبالغة أنْ نقول إنّهم – برغم التوقح والتبجح – أمسكوا عن كثير مما يودون قوله ويرغبون في التطاول به؛ فالشيخ – بكل بساطة – أتى على بنيانهم من قواعده، ولا يزال صوته مجلجلا وزئيره مزلزلا، ولا تزال كلماته تمخر في جدار التغريب الذي بذلوا أعمارهم في تشييده، فلا والله لا تَبْرَأُ قلوبهم من الحقد عليه، ولا يكفون عن همزه تارة ولمزه إخرى، ولن تهدأ معركة استعرت بين ميّت عاش في الناس ذِكْرُهُ وآخرين أحياءٍ بأجسادهم أموات بعقولهم، لن تهدأ حتى يهدأ الصراع بين الحق والباطل ويسلم الراية إلى أشراط الساعة.

 

فأتى الله بنيانهم من القواعد

إنّ الشعراوي رحمه الله لم يكن فقط مفسرا لكتاب الله تعالى، وإنّما كان صاحب مشروع كبير، نجح في تنفيذه بلباقة فريدة وعبقرية نادرة، كان مشروعه بإيجاز شديد هو تنزيل القرآن على واقع الناس ومعاشهم، كان بمثابة إعادة الروح إلى الجسد الإسلاميّ، لذلك استطاع أن يأتي على مشاريع التغريب كلها من جذورها، مشروعِ العلمنة ومشروعِ التطبيع ومشروعِ الإلحاد ومشروعِ التَّتْفِيهِ والتسطيح، فإذا بها تنهار تحت مطارق تفسيره وحلقاته التي كان يسحر فيها الجماهير، وتخر على عروشها واحدة تلو الأخرى، فكان هو وأمثاله من المجددين الصادقين ستارا لقدرة الله تعالى وأخذه لمشاريع الضلال، التي حاق بها وبأهلها ما كانوا به يستهزئون: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ).

    صحيحٌ أنّ مذاهبَ القوم لم تَزَلْ لها راياتٌ ومقرات، تُنْفَق فيها الأوقات والأقوات، وتُبْذَل فيها الجهود والطاقات، لكنّها في الحقيقة فقدت قدرتها على التأثير، ولم يعد أحد من الناس يلتفت إليها إلا بقدر ما يلتفت السائر إلى المقابر الهاجعة، وإن شئت دليلا على ذلك فدونك الشعب المصريّ، لم تستطع المؤسسات المتسلطة باسم الدين أن تؤخره أو تعطله عن إقباله على الشعائر والمناسك، ولا يزال مشهد العيد السابق حاضرا يُفْرِح المؤمنين ويغيظ المجرمين، وما ذلك كلُّه إلا لأنّ الله قَيَّضَ الشعراويَّ وإخوانه من أهل العلم والدعوة والتقى والصلاح لحفظ الدين وتثبيت قواعد الملة.

 

بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه

ومَنْ مِثْل الشعراويّ في تفنيده لشبهات الملحدين؟ وفي دحضه لنظريات الماديين، من مثله في هدم أسس الإلحاد المعاصر؟؟ إنّ تفسيره لكتاب الله يتضمن في ثناياه الرد على جميع دعاوي المبطلين الذين غَرّتهم الحضارة المعاصرة، وغرّهم بالله الغرور؛ فراحوا يروجون للإلحاد في بلاد المسلمين، فهل تراهم يكفون عن التشنيع عليه وقد رأوه ينسف كل ما شيدوا؟ إنّك لتستمع إليه وإلى شقيقه في مقاومة الإلحاد “الدكتور مصطفى محمود” فيتمثل لك قول الله تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ).

    أمّا بيانُه لإعجاز القرآن فلم يُسْبَقْ إليه، ولئن كان الباقلاني والجرجاني والزمخشري وغيرهم من فحول العربية وأئمة التفسير قد ضربوا بمعاولهم في تربة البلاغة لاستكناه الإعجاز القرآنيّ البيانيّ، فبلغوا ما بلغوا؛ فإنّه قد بقي للشعراوي وسيد قطب ضربة فذّة، فجرت الينبوع، فضربها سيد في التصوير الفنيّ والظلال، وضربها الشعراويّ في تأملاته وخواطره؛ وتكاد إذا قرأت لسيد أو استمعت للشعراويّ تشعر بأنّك تملك يقينا بالقرآن يجعلك قادرا على مواجهة العالم بأسره، بفرقان لا تصمد أمامه شبهات المبطلين.

 

فرقناه لتقرأه على الناس على مكث

وإذا كان الشعراوي قد واجه الإلحاد والتغريب، وفضح مشاريع العلمنة والتطبيع، وأبدع في بيان إعجاز القرآن، وأقام الحجة على صدق الرسالة ورسوخ الديانة، وهَدَمَ صروح اللادينيين فوق رؤوسهم، فإنّ ذلك كله ليس هو الأعظم في تراثه، وليس هو الأعمق في الأثر الذي أحدثه، إنّ أعظم ما قدمه إمام الدعاة هو تلك الْحَضْرَةُ المتَّقدة المتئدة، تلك المدرسة العملاقة التي فتحت أبوابها وفرضت وجودها في العمق المصري والعربيّ، فتداعت إليها النفوس وتهاوت عليها القلوب، ليقع ما هو أعظم من كل شيء وأبقى من كل شيء، ألا وهو التربية الإيمانية الوجدانية العميقة، لم تكن دروسا تلك التي تحلق حولها الناس في مجلسه وتابعوها بشغف في المذياع والتلفاز، لم تكن دروسا وإنّما كانت محاضن تربوية بالغة التأثير، ولا أبالغ إذا قلت: لعل ما ينعم به الشعب المصريّ من ثبات على الحق هو ثمرة هذا الجهد المبارك الذي قام به الصادقون من أمثال الشعراوي، ولا أبالغ أيضا إذا قلت إنّ هؤلاء الأقزام لا ينفسون عليه شيء بقدر ما ينفسون عليه ذلك الأثر الذي خلَّفه في الناس، لقد أفسد عليهم أشغالهم، ليس بالتعليم وحسب، وإنّما بالتربية القرآنية العميقة، فهل عنّت لك هذه الآية الآن كما تعنّ لي؟: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا)، أي: أنزلناه مُفَرَّقًا لتربي الناس على آياته وهداياته على مكث وتؤدة.

 

وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض

ذلكم هو الشعراويُّ العظيم، ذلكم هو الطود الشامخ، يتحدى أحياء يدبون على ظهر الأرض وهو ثاوٍ تحت ترابها، تتناوله أقلامهم وتتناوشه ألسنتهم فلا تزيده حدّة أقلامهم سلاطة ألسنتهم إلا سطوعا ولمعانا، كأنّه السيف وأقلامهم وألسنتهم المجلاة التي يجلى بها؛ فلا نامت أعين الجبناء الخبثاء، ولا قرّت جفون الساقطين العملاء، فما هم – وربّي – إلا كالزبد الذي يدفعه السيل مع الغثاء، وهل لرغوة الزبد من بقاء، وهل للفقاقيع إلا الذهاب والفناء؟ وهل يبقى ويمكث في الأرض إلا الماء الذي منه الحياة والأحياء، حقًا: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).

    إنّ علينا تجاه عالمنا العظيم واجباتٍ عظيمة، يجب علينا جميعا أن نستثمر هذه الموجة من الهجوم عليه في إعلاء ذكره والتعريف بفضله، وفي الاستزادة من بحر علمه، وفي نشره على أوسع نطاق، فذلك هو الردّ الفاجع لهم والناجع لنا، ثَبَّتَ اللهُ شعوب أمتنا على الحق والخير وأذهبَ عنها كيد هؤلاء المناكيد.

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. عطية عدلان؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول