الحمد لله الذي جعل الصدق صفة لأهل الحق فأمرهم بقوله: " يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " وإن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم  أخبرنا أن الصِّدقُ يهدِي إلى البرّ، والكذِب يهدِي إلى الفجور، والكلِمةُ مسئوليّة، والكلامُ بناءٌ أو تدمِير، وأهلُ الكلامِ وحملةُ الأقلام ورِجالُ الإعلام هم ممن يسنُّون سُننًا حسَنةً وسننًا سيّئة، هم شركاءُ في الأجرِ حين الإحسان، وحمَّالون للذنب حين الإساءةِ إلى يوم القيامَة. ما قامَ الدين والدنيا إلاَّ على اللّسانِ والسنان، (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ )[البينة:4]، (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) [البقرة:213]. وإنَّ من المؤسفِ أن العصر الذي نعيشه هو عصرُ إعلام والدولة لأهلِ الكلامِ والأقلام أنَّ كثيرًا من الكتَبَة والمحاورين يطلِقونَ الكلماتِ والمقالاتِ لا يُلقون لها بالاً، لا يراجِعون ولا يتراجَعون.

إن الذين ابتُلوا ببلوَى الكلِمةِ كتابةً وإذاعة سماعًا ومشاهَدة، إنه والله ابتلاءٌ معتِقٌ أو موبق. عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد لَيَتَكَلَّمُ بالكلمة من رِضْوَانِ الله تعالى ما يُلْقِي لها بَالًا يَرْفَعُهُ الله بها درجاتٍ، وإن العبد لَيَتَكَلَّمُ بالكلمة من سَخَطِ الله تعالى لا يُلْقِي لها بَالًا يَهْوِي بها في جهنم".  وإنَّ من الخير لمن أراد الله به الخيرَ أن يكونَ رحبَ الصدر واثقَ النفس يستمِع إلى النُّصح بودٍّ وحبّ، ألا تحبّ أن يستعملَك الله في طاعتِه وأن تحسِنَ إلى عبادِه فتمتلكَ الشجاعةَ في معاتبة النفس والقدرة على ضبط القلم واللسان؟! فلا تقفُ ما ليسَ لك به عِلم، ولتجتنبِ الافتراءَ على الآخرين، حتى تظلَّ الفتنُ نائمةً والأمّة متلاحمة، ولو على المفضول من المسائل والمرجوحِ مِنَ الأحكامِ اقتداءً بالرّسول الأكرَم صلى الله عليه وسلم يومَ فتحِ مكة، حين ترك إعادةَ بناءِ الكعبةِ جمعًا للكلمة ودَرءًا للفِتنة وتكافِيًا للفُرقة، وحِين صوّبَ كلتا الطائفتين المبعوثتَين لبني قريظة، كن طالبَ حقٍّ لا طالبَ انتصار، وكُن مبدِيَ نصحٍ لا باحثًا عن إدانة، كن فرِحًا ومحبًّا أن يجرِيَ الله الحقَّ على لسانِ صاحبك، لا تجِد حرجًا في سؤالِ أهلِ الذكر، ففوقَ كلِّ ذي علمٍ عليم، ومَن غايتُه الحقُّ فسبيلُه أن لا تأخذَه العزّةُ بالإثم، وإذا قيلَ له: اتّق الله أذعَن وسلَّم، يحاسِب نفسَه قبلَ أن يحاسَب، قد علِم أنّ الكيِّسَ من دان نفسَه وعمِل لما بعد الموت، وأبناءُ الدعوة رجّاعون إلى الحقّ، برَرَةٌ رحماءُ، يحملون همومَ أمَّتهم، يهدونها طريقَ الحقِّ، ويوردونها مواردَ النَّجاة.

لقد ظهر في السّاحة من كتَبَة ومتحدِّثين لا ينتَمون للحوارِ المتعقِّل والطَّرح المتَّزن والمسلَك المعتدل والنقاش المنصف، بل في كتاباتهم وتحليلاتهم وحواراتهم يطغَى كثير من الجهل  بل إنَّ في بعضِ طروحاتهم تكسب من الأحداث وتعيش على الكوارثِ واستجلاباً للأزَمات، لا يناقشون المشكلةَ من جذورها، ولا يتعاملون مع الجهةِ المسئولة عنها من أجلِ الإسهام في حلِّها، ومن المعلوم أنّ أعرافَ [أهلِ] الإسلام وأحوالهم في كثيرٍ منها راجعةٌ إلى دينهم ومحافظتِهم على تعاليمِه وتمسُّكهم بأحكامِه وآدابه، وإذا نزلت نازلةٌ أو حلَّت واقعة تنافسَ بعض الكتَّاب والمحلِّلين والإخباريِّين لا للإسهام في حلِّ الكارثة أو الخروجِ من الأزمة، بل لتفريقِ الأفكارِ وسَلبِ المجتمع أغلى ما يملك، إمّا في دينِه أو في عفَّتِه وحِشمته أو في تعليمِه وتربيّته، في تصفيةِ حساباتٍ فكريّة أو مواقفَ شخصيّة.

إنّك لتعجَبُ أن تكونَ لغةُ بعضِ هؤلاء أشدَّ تحاملاً على أهلِهم وأمّتهم ودينهم مِن غلاةِ غير المؤمنين وأشياعِهم، في لهجةٍ مقبوحَة ولفظ كَريه، بل قد يكون تربُّصهم بالدين وأهله أوغَلَ في التهمة وأكثرَ في الإلحاح. يتَّخذون مِن الأحداثِ والأزماتِ ميدانًا للمزايدات وحَربًا على المواقفِ والتضليل، لا تجرُؤ على المكاشفةِ في الحقّ، بل إنها تجعل القارئَ والمستمِع والمشاهدَ والمتابعَ رهينةً لمبالغاتها، سواءً في جانِب السَّلب مع المخالفين والأضداد، أو في جانب الإيجابِ مع الموافقين والأصحاب. لا همَّ لكثيرٍ منهم إلاّ الحديثُ عن الجوانبِ المظلمة من الحياةِ والبائسِ من الأحوال، يتحدَّثون بعواطفِهم أكثرَ مِن عقولهم، تضخيمٌ لآراءِ المعارضين الغاضبين، وتقليلٌ وتهميش لنداءات الإصلاحِ وخطاباتِ الاعتدالِ وطمأنةِ النفوس لتتروَّض على قبولِ الحق، تركيزُهم على التذكير بماضٍ أليم لم يسلَم منه فردٌ ولم تسلَم منه أمّة، أو فتح لجرحٍ قد بَرأ، أو إثارةٌ لحِقد قد اندَثر، أو تمجيد لرموزٍ على حِساب رموزٍ أخرى، أو إثارة لنعرات، أو تعميمٌ لحالاتٍ فرديّة أو قضايا معزولة، أو لتصفيةِ حساباتٍ فرديّة ونفسيّة ووضعها في قوالبَ وكأنها ظواهرُ اجتماعيّة أو مشكلاتٌ عامّة، في استعداءاتٍ فجّة واستفزازات لا معنى لها. ليسَ من المعيبِ أن يختلِفَ الكُتَّاب وأهلُ الرأيِ في آرائهم وحِواراتهم ومكاشفاتهم، ولكن المعيبَ المذمومَ أن تتحوَّلَ تلك الخلافاتُ والمناقشاتُ إلى اتهاماتٍ وسوءِ ظنٍّ وأذى وكراهية ." عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البِرِّ، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويَتَحَرَّى الصدق حتى يكتب عند الله صِدِّيقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويَتَحَرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كَذَّابا" صحيح – متفق عليه - اللهم اجعلنا من الصادقين .