إحسان الفقيه

يذكر العالم الموسوعي الراحل عبد الوهاب المسيري في إحدى محاضراته، عن الكاتب المسرحي تشارلز لام، أنه كتب مسرحية كانت رديئة للغاية، وفي ليلة العرض ثار الجمهور ضدها وطُرد الممثلون، وكان تشارلز لام نفسه من ضمن المتظاهرين ضد المسرحية، دائما تذكر هذه القصة للدلالة على عالم بلا قاع، بلا سقف.

إنها صورة تشابه حالة الفوضى المعرفية والاضطراب الفكري التي يعيشها الغرب، الذي يخلق النظرية الفلسفية اليوم ثم يأكلها غدا كصنم العجوة، ليأتي بغيرها ينقضها وينسفها، تماما كما عاش دهرا في ظل الحداثة، ثم نقضها وسفّهها وأقر بتأزّمها، لينتقل إلى فلسفة جديدة وهي ما بعد الحداثة، وحتى في الأخيرة يضطربون في تحديد ما إذا كانت ناسخة للحداثة، أم أنها طور جديد من أطوارها.

يعرّف جيف فاونتاين الحداثة، بأنها سلسلة من التحوّلات في المجتمع المعاصر، قائمة على أساس التمدّن والتصنيع والعلم والتكنولوجيا، التي أصبحت أساسا لفكرة الشكّ الديني، وعدم الاعتقاد بصحة الكتب المقدسة. كما يعرّفها هنري على أنها عبادة الجديد من أجل الجديد. تعددت تعريفات الحداثة، لكنها في العموم ترتكز على تقديس الجديد، ورفض الماضي، والتمركز حول الذات، ونبذ المرجعيات النهائية الخارجية المتمثلة في الديني، وأن العالم المادي مكتفٍ بذاته، وفي داخله ما يلزم لفهمه، وقدرة الإنسان على فهمه وتوليد منظومات معرفية وأخلاقية. الحداثيون العرب يعلمون أنه لا يمكن استنتاج هذه الفلسفة الغربية لواقعنا الإسلامي العربي، وأدركوا أنه لا يمكن لهم الاصطدام بالقرآن الكريم، فكان لا بد من التوفيق بين المنهج الإسلامي والطرح الحداثي، بما يتناسب مع الواقع العربي الإسلامي. من هنا ظهر خطاب حداثي عربي لا يدعو لنبذ القرآن، ولكن بقراءة جديدة تتناسب مع الفلسفة الحداثية، تعتمد على تجاوز المنهج العلمي الإسلامي في التفسير، وإخضاع تفسير القرآن للفلسفات الغربية. يعتمد الحداثيون العرب في قراءة النص القرآني على الرأي المجرد حتى في الغيبيات، واستبعاد السنة النبوية من تفسير القرآن، ومن باب أولى لا يعتمدون أقوال الصحابة في التفسير. وقطعا التفسير علم كسائر الفنون له أصوله، وهناك منهج علمي إسلامي واضح في هذا الشأن، فبعض آيات القرآن يفسر بعضها بعضا، والنبي صلى الله عليه وسلم باعتباره المبلغ للقرآن عن ربه يفسره أحيانا، وهو ما يعرف بالتفسير المأثور، وفي ما عدا ذلك مما تتعدد فيه الأفهام ولم يرد في تفسيره نص قرآني أو نبوي، يسوغ فيه الاجتهاد، ولكن بامتلاك الأدوات التي تأتي قوة اللغة وفهم ألفاظها ومعانيها وتراكيبها وتحصيل جملة من العلوم الشرعية والعقلية على رأس هذه الأدوات، ولذلك لا يفسر بالرأي إلا من وصل إلى هذه المرتبة.

لكنّ الحداثيين يرون أنه يسوغ لأي أحد كائنا من كان، أن يفسر القرآن برأيه وما يطمئن إليه عقله، وهي دعوة لتفريغ النص القرآني من محتواه، فالأفهام تختلف، ومستوى الإلمام باللغة العربية التي هي لغة القرآن مختلفة، ومن أجل تحقيق هذا الغرض يقطع الحداثيون النص القرآني عن تراث التفسير والمفسرين بحجة أنهم بشر مثلنا. عندما اعترض الخوارج قديما على التحكيم بين الصحابة المتنازعين، قالوا: تُحكّمون الرجال في دين الله؟ ورفعوا المصاحف ينادون بتحكيم القرآن، مع أن الرجال هم الذين يفسرون القرآن، القرآن ليس له لسان ناطق، يقوم بفهمه المختصون الذين حصّلوا أدوات تفسيره، الحداثيون بدورهم يكررون صنيع الخوارج، يريدون القرآن من دون رجال يفسرونه، ويحق لأي أحد، بناء على ذلك، أن يفسره كما يهوى، وهي دعوة لا يخفى على أحد بطلانها وفسادها.

ربما يفسر ذلك شغف الحداثيين باستعادة تراث كيانات وشخصيات تعتمد التفسير الباطني، أو الإشاري للقرآن أمثال ابن عربي، وهو تفسير معطل لألفاظ القرآن ودلالاته، نظرا لأن هذا النوع يفتح الطريق أمام الجميع للولوج إلى تفسير القرآن، بادعاء فهم الأمور الباطنة التي اشتمل عليها.

يستبعد الحداثيون مفهوم قداسة النص في التعامل مع القرآن، ويزعمون أن إضفاء صفة القداسة على القرآن يحرم الولوج إلى دلالاته العميقة. وحجة الحداثيين في قطع الصلة بين القرآن، وتراث التفسير والمفسرين هو استبعاد الوساطة في فهم النص الديني، على غرار الثورة البروتستانتية على آراء الكنيسة في تفسير الكتاب المقدس، والاقتصار على الكتاب وحده.

وهو قياس فاسد لا يخفى فساده، إذ أن أخذ التفسير عن أهل الاختصاص ليس سلطة كهنوتية، فهم جميعا محكومون بمنهج واضح لا لبس فيه، لا يحيدون عنه، ووفق أدوات محددة، وفي حيز النص الذي لم يفسر عن طريق النقل، ويفهمون هذا النص وفقا لدرايتهم القوية باللغة العربية التي نزل بها القرآن، وتعد أحد مصادر التفسير الأساسية، فهم لا يحلون أو يحرمون كما يشتهون، حتى يقال إنهم يمارسون سلطة كهنوتية على الناس في تلقي القرآن. من العجيب أن هؤلاء يثورون كلما تكلم أي أحد في غير فنه أو تخصصه، خلافا لموقفهم من القرآن، يسوغون لأنفسهم تفسيره وفقا لعقولهم وهم أبعد ما يكون عن العلوم الشرعية واللغة العربية وسائر أدوات التفسير.

يرمي الحداثيون من هذا إلى تكييف القرآن مع متطلبات فلسفة الحداثة الغربية، وليس لهم في ذلك منهج علمي يعتمدون عليه، فمن ثم لا يعتمدون في فهمه على قواعد، بل يدخلون إليه متشبعين بأيديولوجيات وفلسفات يعتنقونها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

.المصدر: القدس العربي