بقلم : د. عطية عدلان أستاذ الفقه الإسلامي
ما الذي جَنَتْهُ الأجيالُ القادمة؛ حتى تُولَدَ مقيدةً بآسار الديون الشائنة؟! بل: ما الذي جَنَتْهُ الشعوب التي ظَلَّتْ على مدى عقود ترزح تحت أغلال الاستبداد والفساد؛ حتى يُقْضَى عليها أن تلقى رَبَّها بعد طولِ عناء وشقاء مثقلةً بحقوق لصالح المترفين الأثرياء؟! أليس من الحقّ أنْ نحكم على القوانين التي تحكم العالم بأنّها -على الأقل- عاجزةٌ عن تحقيق العدالة؟ لماذا يجب علينا أن نبقى أبدًا مُعظمين لتلك القوانين وأن نَظَلَّ دَوْمًا مشدودين بوثاقها مربوطين في سواريها؟ وهل يسوغ للبشرية أن تظلّ تتشدق بمعاني الإنسانية وهي ترى ما يُبْرَمُ من عقود بين الدائن والمدين وتعلم أنّها ليست سوى مؤامرة ضدّ شعوب معذبة؟ تساؤلاتٌ صالتْ وجالتْ في الوسط العام؛ ليتمخض الوضعُ عن نظريةٍ وُلِدَتْ ثم تطورت ثم صار التعامل بها واقعًا؛ فما قصة النظرية التي تعرضت للديون الكريهة؟ وما السبيل إلى تفعيلها؟ وكيف يمكن لشعوبنا إذا شاءت أن تتخذها سندًا للخلاص من آسار هذه الديون المقيتة؟
ميلاد نظرية الدين غير المشروع
تنصُّ المادة 28 من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان على أنّ “لكل فرد حقّ التمتع بنظام اجتماعيّ ودولي يمكن أن تتحقق في ظله الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحقيقًا تامًّا”، ويترتب على هذه المادة بصورة تلقائية أنّ إسقاط الشعب للنظام يعني أنّ ما كان يبرمه من عقود -بما في ذلك الديون- لم تكن في الغالب محلّ رضا من الشعب؛ ومن ثمّ فالأصل أنّها لا تلزم الشعب؛ لأنّه ما سعى في إسقاط هذا النظام إلا وهو يرى أنّه لا يمثله.
وانطلاقًا من الواقع المرير، وتجاوبًا مع أصداء التّظَلُّمِ الأُمَمِيّ من الممارسات التمويلية الشائنة؛ أصدر الفقيه الروسي (ألكسندر ساك) في عام 1927 “نظرية الدين البغيض” وذلك في مؤلفين، اعتنى فيهما بقضية “التزامات الأنظمة الوارثة”، هذه النظرية تنص على أنّه “إذا أَبْرَمَتْ سلطةٌ استبدادية دَيْنًا لا يلبي حاجيات الدولة ولا يخدم مصالحها، بل يُعَزِّزُ نظامَها الدكتاتوريّ، ويقمع السكان الذين يقاومونها، فإنّ هذا الدين يكون دينًا مقيتًا، وليس مُلْزِمًا للأمّة”.
موقف القانون الدولي والمحاكم الدولية
بموجب المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية؛ تُعَدُّ “نظرية الدين البغيض” مرجعًا للقانون الدولي العام، غير أنّ الأصل أن یُلْزِمَ القانونُ الدولي -بحسب مبدأ استمراریة الدولة- نظامَ الحكم اللاحق بوراثة الالتزامات القانونیة لنظام الحكم السابق؛ وذلك لأن التغیرات التي تطرأ على شكل نظام الحكم لا تؤثر في المركز القانوني للدولة، إلا أنَّ هذه القاعدة العامة لیست على إطلاقها؛ وذلك لأن نظریة التوارث في القانون الدولي لا يسري علیها كل ما يسري على نظریة التوارث في القانون الخاص، لذلك -وبحسب أستاذ القانون الدولي بجامعة بغداد محمد أحمد حمد- فإنّ هذا الالتزام الأصليّ العام لا یسري تلقائیًّا على الدیون، إذْ یجب أن نفرّق في هذا الصدد بین نوعین من الدیون، الأول تكون الدولة مُلْزَمَةً به رغم حدوث تغییر في شكل الحكم؛ بوصفها عقودًا أبرمتها الدولة للمصلحة العامة للشعب، أمّا الثاني فإن الحكومة الجدیدة لا تكون ملزَمة به؛ لكونه غير مشروع.
وإذا كانت نظريات مشاهير القانونيين مرجعًا للمحاكم الدولية فإنّ “ساك” لم ينفرد بهذه النظرية، فلقد تطرق إليها الكثيرون، من هؤلاء (هوجو كروشیوس) الذي أكّد أن العقود التي أبرمتها سلطة؛ لأغراض لا تحقق المصلحة العامة یجب ألّا تُحترم، وأن العقود التي أبرمها نظام غاصب أطاح بنظام شرعي یجب ألّا تُحترم. أمّا (إريك توسان) فإنّ كتاباته تركزت على تبديد الغموض الذي يغشى نظرية الدين الكريه، وبحسب “حسين العزّي” فإنّ ما كتبه “توسان” يقتضي إدخال تعديلين على نظرية “ساك”، الأول: عدم إلزام الدولة المَدِينة بالرجوع إلى محكمة دولية في تعريف الدين المقيت، والثاني: إلقاء عبء الإثبات على الدائن لا على المَدِين، ويُعَدُّ ما جرى في الإكوادور في الفترة 2007-2009 سابقة تعطي الحق في تطوير النظرية بما يسمح للدولة المَدِينة -بمشاركة المواطنين وضغطهم- بالقيام من جانب واحد بتعليق سداد الدين البغيض.
سوابق تاريخية ومسوغات واقعية
تُعَدُّ “معاهدة فرساي” من المعاهدات التي أشارت مبكرًا إلى فكرة الدین المقیت قبل ميلاد النظرية، فقد أعفت المادة 254 من المعاهدة بولندا من ديونها التي كانت قد أُبْرِمت لصالح ألمانيا؛ لكون الإجراءات التي اتخذتها الأخيرة تعسفية استعمارية، وقبل ذلك أنكرت الحكومة المكسیكیة الدیون التي أبرمها الرئیس المخلوع للمدة من 1863 إلى 1867، وفي 10 يناير من العام 1898، تضمنت معاهدة السلام المُوقعة في باريس رفض اعتراف أمريكا بالديون المترتبة على كوبا، ثم بعد ذلك وفي 1947، نصَّت معاهدة السلام المبرمة بين إيطاليا وفرنسا على أنّه “من غير المتصور أن تتحمل إثيوبيا عبء الديون التي فرضتها إيطاليا من أجل ضمان هيمنتها على الأراضي الإثيوبية”.
السبل الواقعية والحجج الداعمة
بحسب موقع (CADTM) “الشبكة الدولية للجنة: من أجل الديون غير المشروعة”، فإنّ الحلول لن تكون قانونية قضائية محضة، لأنّ القوى والمحاكم الغربية تمثل حجر عثرة؛ لذلك فإنّ الحلول غالبًا ستكون سياسية، وبضغوط شعبية، وعندئذ يقتصر دور الحجج القانونية على تحييد القوى الداعمة للدائنين. وبحسب المثالين النرويجي والإكوادوري، فإنّ عدم تَوَفُّر وصف الصالح العام في الدين هو المعيار الحاسم في وصف الدين بأنّه غير مشروع، كما يكفي -بحسب (CADTM)- إثباتُ أنّ الدائنين كانوا يعرفون أنّ النظام المقترض يخالف وقت إبرام القرض المبادئ الأساسية.
وثَمَّ مبادئ قانونية يقرّها الشرع الإسلاميّ، ويزيد عليها مِنْ لَدُنْهُ قواعدَ حاكمة، فمبدأ “منع التعسف في استعمال الحقّ”، ومبدأ “حسن النية في العلاقات الدولية”، ومبدأ “إمكانية البطلان الجوهري للفعل القانوني في القانون الدولي”، جميعها مبادئ تقرها الشريعة، وتزيد عليها قواعد داعمة، مثل: “التصرُّف على الرعية مَنُوطٌ بالمصلحة”، و”الأمور بمقاصدها” و”العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني”، إضافة إلى ما اتفقت فيه المواثيق الدولية مع الشريعة من تقرير حقوق الإنسان ورفع الظلم والقهر عنه، وجميعها ثوابت داعمة للتحرير الكبير، عندما يأتي أوانه، وإنّه لآت، وكلُّ آتٍ قريب.
المصدر : الجزيرة مباشر