بقلم: الدكتور محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين – فك الله بالعز أسره

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..

فإن حدث تحويل القبلة كان أمرًا خطيرًا عظيم الآثار في تاريخ الإسلام، متعدِّد الأبعاد في حياة الجماعة المسلمة، وستبقى دروسه متجددةً على مرِّ الأزمان، يدلُّ على ذلك الحديثُ القرآنيُّ الطويلُ عن هذا الأمر، والذي كشف عن الكيد اليهودي المفضوح للإسلام والمسلمين، وكيف فشلت كل تلك الجهود اليهودية والنفاقية المحمومة، وبطل كل ذلك السحر الفاسد الذي اجتهد اليهود والمنافقون في ترويجه أو التشويش به على الحق الواضح الصريح ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)﴾ (الأعراف).

وثمة آفاق تربوية سامية حمل هذا الحدث المسلمين إليها، وسجَّلها القرآن لتبقى دروسًا متجددةً للأمة، ومنها:

1- تميُّز شخصية الأمة الإسلامية وتحديد وظيفتها:

أكد هذا الحدث لهذه الأمة حقيقتَها الكبرى، ووظيفتها الضخمة في هذه الأرض، وبيَّن مكانتَها العظيمة في حياة البشرية، وحدَّد دورَها الأساسي في حياة الناس، بدءًا باتخاذ قبلةٍ خاصةٍ لها، لا تتبع غيرها ولا تنقاد لسواها، فهذه القبلة هي أوسطُ القِبَل وأفضلُها، وهم أوسطُ

الأمم وخيارُهم، فاختار أفضلَ القِبَل لأفضل الأمم، كما اختَار لهم أفضلَ الرسل وأفضلَ الكتب وأخرجهم في خير القُرُون، فقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية 143).

وما دامت هذه مكانةَ الأمة، وما دام هذا دورَها، وما دامت هي الأمة التي تشهد على الناس جميعًا، وتضع لهم الموازين والقِيَم ويُعتَمد رأيُها فيهم، وتَفصِل في أمر قِيَمهم وتصوراتِهم وشعاراتِهم، فتميِّز الحقَّ من الباطل، في الوقت الذي لا يشهد عَليها، ولا يحكم على أعمالها، ولا يزن قيَمَها إلا رسولُها صلى الله عليه وسلم؛ ما دام الأمر كذلك فإن لها قبلتَها الخاصةَ التي أرادها الله لهَا، وبخاصةٍ أن المعنى المقصودَ من توجيه المسلمين إلى بيت المقدس قد تحقَّق، واستسلم المسلمون تمامًا لأمر الله، في الوقت الذي بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجةً لهم على أن دينهم هو الدين، وقبلتهم هي القبلة، وأنهم هم الأصل! فأولى بمحمد ومَن معه أن يفيئوا إلى دينهم؛ لا أن يدعوهم إلى الدخول في الإسلام.

أما كونها ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ فمعناه: أنها الأمة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي، فهي أمة وسط في التصوُّر والاعتقاد، وفي التفكير والشعور، وفي التنظيم والتنسيق، وفي الارتباطات والعلاقات، لا تلغي شخصية الفرد ومقوِّماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة، ولا تطلقه كذلك فردًا أثِرًا جَشِعًا لا هَمَّ له إلا ذاته، إنما تُطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء، وَتطلق من النوازع والخصائص ما يحقِّق شخصية الفرد وكيانه، ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلوِّ، ومن المنشِّطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة، وتقرِّر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفردَ خادمًا للجماعة، والجماعةَ كافلةً للفرد في تناسقٍ واتساق.

وهي أمة وسط في الزمان، تنهي عهد الطفولة البشرية من قبلها، وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها، وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها، وتصدُّها عن الفتنة بالعقل والهوى، وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء، وتسير بها على الصراط السويِّ بين هذا وذاك.

وأمة تلك وظيفتها، وذلك دورها، خليقةٌ بأن تتحمَّل التَّبِعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفُها، وللقِوامة تبعاتُها.

ولم يعوِّق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا- الذي وهبه الله لها- إلا أنها تخلَّت عن مرجعيتها الإسلامية وعن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة، ليست هي التي اختارها الله لها.

وجديرٌ بالأمة أن تبصر الكنز الذي بين يديها، وأن تفاخر بالمنهج القويم الذي تضمَّنه القرآن والسنة، والذي يحقِّق لها السبق والريادة في العالمين.

2- تحديد مصدر التلقي للأمة المسلمة:

فهذه الأمةُ لا تتلقَّى دينَها وقِيَمَها وتصوراتِها وشعائرَها من أهل الكتاب ولا من غيرهم، وإنما تتلقَّى من الله وحده ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْممْتَرِينَ (147)﴾ (البقرة)، وذلك أمر تكرر التأكيد عليه في القرآن الكريم، فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفي بِالله وَكِيلاً (3)﴾ (الأحزاب)، وقال تعالى: ﴿وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفي بِالله وَكِيلاً (48)﴾ (الأحزاب).

ولهذا فإن الأمة ينبغي ألاَّ تنخدع بحِيَل أعدائها على اختلاف أصنافهم، وألا تلتفت إلى إرجاف اليهود والمنافقين، وألا تفتتن بدسائسهم، وألا تستجيب لتحليلاتهم الزائفة، فهم قد عزموا أمرَهم على معارضة الإسلام ومحاربة رسالة الحق والصدِّ عن دين الله ودعوته، والتشويه لكل ما فيه من جمال وجلال، ولا ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة أن يتبعوا أهواءهم بعد ما جاءهم العلم ﴿وَلئنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145)﴾ (البقرة).

ولكن.. لماذا تخالف الأمة غيرها؟ وتدع التلقِّي ممن سواها من الأمم؟!

إن الأمة التي كتب الله لها قيادةَ البشرية، وريادةَ الدنيا؛ ينبغي لها أن تستمد تقاليدَها وأفكارَها ومنهاجها- مثلما تستمد عقيدتَها- من المصدر الذي اختارها للقيادة، ومن ثَمَّ فإن عليها أن تعطي غيرها، لا أن تأخذ من غيرها، فالأمة التي تأخذ من غيرها تبدأ بأخذ الأشياء المادية، ثم تتدرَّج إلى أخذ العادات المادية، ثم المظاهر الثقافية، ثم القِيَم والمقاييس، ثم العقائد في نهاية المطاف.

ولا يمكن للأمة الوسط القائدة أن تكون كذلك.. لا يجوز لها أن تقلِّد الأممَ الأخرى التي جاءت لتقودَها وترفعَها، وإنما تستمدّ وتتلقَّى التعاليمَ والتوجيهاتِ والتصوراتِ من الله تبارك وتعالى، لتقود البشرية إلى ما فيه سعادتها، وتنتشلها من التردِّي الأخلاقي الذي انحدرت إليه.

وما أحوج الأمة المسلمة اليوم إلى تذكُّر هذا المعنى السامق الرفيع، بعد أن انبهمت ملامحُها، وضاعت سِماتُها، وصارت تتلقى من أعدائها كل شيء، حتى القيم والمبادئ والتصورات والأفكار، إلى الحدِّ الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، وحذَّر الأمة من الوصول إليه، فقال: "لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ"، قيل: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فَمَنْ؟!" (متفق عليه).

فإذا كانت الحكمةُ ضالَّةَ المسلم يأخذُها عمن خرجتْ منه، ويستفيدُها من كل مَنْ صدرت عنه، أيًّا كان؛ فإن هذا الأخذ والتفاعل منضبطٌ بما لا يتعارض مع ثوابت الدين وخصائص الأمة، وبما لا يميِّع هويَّتها، أو يجعلها تقلد غيرها بغير وعي.

3- تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم:

إذ جعلهم خيرَ أمة، وأرسل إليهم خيرَ رسول، وأنزل عليهم خيرَ منهج، ونقلهم من ظلام الجاهلية الدامس، وأفكارها المضطربة، ومقاييسها الفاسدة، إلى نور الإسلام، وسداد الحكمة، وكمال العلم ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)﴾ (البقرة).

ثم أمرهم بذكره وبشكره؛ إذ بهذين الأمرين يستوجبون إتمامَ نعمه والمزيدَ من كرامته، ويستجلبون ذكرَه لهم، ومحبته إياهم، ثم أمرهم بما لا يتم لهم ذلك إلا بالاستعانة به، وهو الصبر والصلاة، وأخبرهم أنه مع الصابرين.

إن على الأمة أن تدرك غاية الوضوح أن هذه النعمة لا يتم شكرها على الحقيقة إلا بالعمل الدائب لنشر قيم الحق والخير والفضيلة في العالمين، والعمل الجادِّ على تقديم هذا الخير الذي بين أيدينا إلى الدنيا بأسرها، وتوضيح الصورة الحقيقية للإسلام لدى الآخرين الذين تطوَّع المرجفون بتقديمه بصورة مشوهة إليهم.. إنه حق البشرية على هذه الأمة أن تبصر هذا النور، وأن تتعرف إلى ما في هذا الدين من خير هم في أمسِّ الحاجة إليه.

وإذًا فقد انجلى هذا الحدث العظيم بكل ملابساته عن نتائج طيبة وثمرات عظيمة للإسلام والمسلمين، وحَرِيٌّ بالأمة اليوم أن تطيل الوقوف مع هذه الدروس الكريمة، وأن تتعلم منها كيف تواجه أعداءَها وخصومها، وتبطل- بإذن الله- كيدَهم، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله الله ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: من الآية 51).