شعبان عبدالرحمن

هذا الانتصار المبهر سيظل محفوراً في سجلات التاريخ دون نسيان.. فقد جاءت الانتخابات التركية بين حدثين هامين غيرا مجرى تاريخ تركيا.. 27مايو الذكرى الثالثة والستين لأول انقلاب عسكري تشهده الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1923م، على أول رئيس مدني منتخب (عدنان مندريس).. و29 مايو الذكرى السبعين بعد الخمسمائة (1453م) لفتح القسطنطينية حين عاشت تركيا أعظم انتصاراتها وأقامت امبراطورية كبرى نشرت خيرها على العالم.

وفي ذكرى أول انقلاب عسكري يوم السبت الماضي ( 27 مايو ) كان الشعب التركي قد أكمل استعداداته  لتلك الانتخابات التاريخية وقد استجمع في ذاكرته مشاهد المأساة التي عاشها منذ عام 1960م وعلى امتداد عقود، استجمع مرارات الفقر والتخلف والاستبداد التي عاشها علي يد أربعة انقلابات عسكرية  بدأت بانقلاب الجنرال جمال جورسيل علي عدنان مندريس أول رئيس مدني منتخب بعد حقبة مصطفى كمال، وهو الذي تجاسر وخطى بتركيا أولى الخطوات نحو العودة إلى أحضان الإسلام من جديد ضمن مشروع متكامل، فأعاد الأذان المفقود باللغة العربية (شهيد الأذان) مؤكداً علي احترام اللغة العربية.. لغة القرآن الكريم، وانطلق في رحلة العودة لتعليم الإسلام من جديد والذي بات من المحرمات بل ومن الكبائر في قوانين المرحلة الكمالية، وسعى لإعادة عائلة السلطان عبدالحميد من عالم الشتات ولم يتمكن إلا من إعادة أميرتين فقط.

وبدأ مرحلة جديدة نحو الحرية والنهضة فانقلب عليه الجيش ونفذ فيه حكم الإعدام  في 17 سبتمبر/أيلول 1961م ، في مشهد مأساوي لن ينساه التاريخ، وفي اليوم التالي لإعدامه تم العثور علي الأميرتين مقتولتين في رسالة انتقام واضحة لكل من يجرؤ علي الاقتراب بأي مساعدة لعائلة السلطان عبد الحميد المشتتة في بقاع الأرض، إنه الانتقام المسموم من دولة الخلافة ورموزها، ولم يجرؤ على رد الاعتبار لتلك العائلة إلا الراحل نجم الدين أربكان-  يرحمه الله – مهندس الصحوة الإسلامية بتركيا رئيس وزراء تركيا الأسبق، فأعاد البقية الباقية منهم إلى تركيا ورد إليها الاعتبار.

أتأمل تلك المرحلة العاصفة والحزينة والمخضبة بالدماء، بعد أول انقلاب عسكري بغيض أعدم رئيس الوزراء المنتخب، رمز التمرد على العلمانية البغيضة الحاقدة علي الإسلام.. لتدخل تركيا بعد ذلك عصور الظلام الدامس والفقر المدقع والتخلف والضياع.. وحرب اقتلاع الإسلام من تربتها ومن قلوب شعبها بعد تجريم أي فعل مباشر أو غير مباشر يقترب من الإسلام، حتي ولو كانت أبيات شعر تمجد الإسلام مثلما فعل الرئيس التركي والفائز أمس للمرة السادسة والذي تم سجنه عام 1999م أربعة أشهر انتقاماً على ترديد تلك الأبيات الشعرية التي تمجد قباب المساجد ومآذنها.

ذهب الشعب التركي إلى صناديق الانتخاب أمس 28 مايو وفي ضميره وذاكرته مشاهد ذلك العصر الذي أطل بأشباحه مهدداً بإعادة نفايات ذلك العصر الأسود ومعهم ومن حولهم أبالسة النظام الدولي ومنظوماته الإعلامية والدعائية والاقتصادية التي ما حلت في بلد إلا خربته وما حلت على شعب إلا أذلته وأعادته إلى عصور العبودية والتي شنت حملة شيطنة دعائية خالية من أية مهنية أو أخلاق.

تعلم الشعب التركي ووعى الدرس وهو متجه إلى تلك الانتخابات ولاحت أمامه خلف ستارة تلك الغرفة الصغيرة وهو أمام صندوق الاقتراع مشاهد العز والانتصار وصناعة تاريخ جديد يوم فتح القسطنطينية ( 29 مايو 1453م )، ذلك  اليوم  الذي لا ينسى من أيام الإسلام وفيه تحققت فيه نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في الحديث الصحيح:” لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها  ولنعم  الجيش ذلك الجيش”  .

فنفض عن كاهله أوزار الانقلابات والهزائم واستحضر ملاحم الانتصار في القسطنطينية وازداد إصراراً علي الدخول إلى القرن الجديد بمشهد نال إعجاب واحترام العالم ، إذ هرعت  غالبيته  العظمى ( 85% من الناخبين) إلى الصناديق، في عملية انتخابية حضارية تعد الأولي في تاريخ الانتخابات التركية  التي تشهد إعادة للمرحلة الأولى للانتخابات الرئاسية بفارق ضئيل بين الرئيس ومنافسه  في رسالة صادمة للآلة الإعلامية الغربية التي وصفته بالدكتاتور، ويوجه الرئيس سؤاله: هل الرئيس الدكتاتور يعيد الانتخابات وبينه وبين الفوز عدد قليل من الأصوات؟!.

لقد أدار تلك الانتخابات بنزاهة جهاز إداري كبير وأشرف علي تأمينها بأمانة 601 ألف من رجال الأمن ولم يبلغ  فيها عن أي مشكلات – وفق رئيس اللجنة العليا للانتخابات- ، وأعطي الشعب التركي الرئيس رجب طيب أردوغان – بكل وضوح – ثقته من جديد ليدخل بهم إلي القرن الجديد بأعلى نسبة نجاح ( 53% ) وبفارق ٣ملايين صوت على منافسه كمال كليجدار، ليبدأ فترة حكم جديدة وسط احترام العالم كله  ليكون الرئيس الأطول عهدا  في حكم تركيا بالصندوق النزيه ( ربع قرن)، ولم يتفوق عليه سوى الذين حكموا بلادهم عشرات السنين بالحديد والنار فأوردوها المهالك.

وبهذا يكون أردوغان قد رسخ دعائم الحكم الديمقراطي في بلاده بعد ملحمة كفاح مدوية نجا خلالها من أكثر من محاولة اغتيال وأكثر من محاولة انقلاب ومحاولات لم تتوقف لحصار بلاده لكنه انتصر على الجميع بفضل الله …

وفي ذلك عبرة لمن يعتبر.