د. يوسف القرضاوي
إن المسلم ليس - كما يتصوره أو يصوره بعض الناس - إنسانًا متقوقعًا منغلقًا على نفسه، قد وضع على عينه غشاوة فلا يرى شيئًا خارج محيطه، وسد أذنيه فلا يسمع إلا لشيوخه، وأغلق على عقله بقفل محكم، فلا يفتحه لشيء، غير ما لقنه، وإن قام عليه برهان العقل، أو دليل الحس، أو سلطان الواقع.
إن المسلم الحق قد تعلم من كتاب الله ومن سنة رسول الله أن الحق يلتمس في آفاق الكون وفي أغوار النفس، أو في عبر التاريخ كما قال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات:20-21)، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت:53)، {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} (الأعراف:185).
كما تعلم أن الحق قد ينطق به غير المؤمنين، ويؤخذ عنهم، بغض النظر عمن قاله، فالعبرة بما قيل، لا بمن قال. وقد نقل القرآن بعض كلمات تعبر عن الحقيقة من أناس لم يكونوا مؤمنين، كما رأينا في قول ملكة سبأ في وصف المستعمرين إذا دخلوا بلدًا {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل:34) فهي تريد: إذا دخلوها فاتحين مستعمرين، فهم يفسدون البلاد ويذلون العباد.
ونقل القرآن عن امرأة العزيز قولها حين حقق معها الملك في قضية يوسف {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف:53) حتى إن بعض المفسرين استكثروا ذلك عليها وقالوا: إنه من كلام يوسف، والسياق قاطع بأنه من كلام المرأة. وقد علمنا القرآن الكريم من خلال قصصه التي يسوقها عبرة لأولي الألباب: أن الإنسان من قديم الزمان تعلم من غراب، وأن نبي الله سليمان استفاد من هدهد، بعض ما لم يكن يعلم.
ففي قصة ابني آدم، التي رأينا فيها الأخ الشرير، يقتل أخاه الخيِّر ظلمًا وعدوانًا، ثم يحار في دفن جثته، {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} (المائدة:31)؛ وبهذا تعلم الإنسان كيفية دفن الموتى من الغراب. وفي قصة سليمان مع ملكة سبأ: {فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (النمل:20-22).
وهكذا تلقى سليمان عليه السلام هذه المعلومة من هذا الطائر «الهدهد» وأصبحت مثلًا لكل كبير يتعلم من صغير، حيث يقول التلميذ لشيخه: لست أعظم من سليمان، ولا أنا أقل من الهدهد! والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «أصدق كلمة قالها شاعر، كلمة لبيد بن ربيعة: ألا كل شيء ما خلا الله باطل»(1)، وهذا مطلع قصيدة للبيد قالها في الجاهلية.
بل صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الصحابة حين أوصاه الشيطان بقراءة آية الكرسي: «صدقك وهو كذوب»(2). حتى الشيطان يمكن أن يقول الصدق ويتعلم منه المسلم الملتزم إذا عرف صدقه. والمؤمن البصير هو الذي يميز الصدق من الكذب، والحق من الباطل، والطيب من الخبيث. وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث ضعيف: «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها، فهو أحق الناس بها». والحديث ضعيف الإسناد من غير شك، ولكن معناه صحيح، ومقبول عند المسلمين، ومعمول به.
وقال علي رضي الله عنه: العلم ضالة المؤمن، فخذوه ولو من أيدي المشركين(3). وينطبق هذا أكثر ما ينطبق على نتائج العلوم الطبيعية والرياضية، التي لا تصطبغ عادة بعقائد أصحابها ولا قيمهم ومفاهيمهم عن الإنسان والحياة والكون؛ لأنها قوانين كونية عامة ينتفع بها المؤمن والكافر، ويخضع لسننها البر والفاجر. ومن هنا لم يجد المسلمون حرجًا في عصورهم الذهبية أن يقتبسوا العلوم الكونية، من الطب والتشريع والفلك والفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرها، من أمم الحضارات القديمة، كاليونان والفرس والروم ولا سيما اليونان(4).
ولا غرو أن استفاد الرسول صلى الله عليه وسلم من أسرى المشركين في غزوة بدر، ممن كان يحسن الكتابة منهم في محو أمية عدد من المسلمين في المدينة، وتعليمهم القراءة والكتابة، وجعل ذلك فداءهم من الأسر، وكان من الذين تعلموا على أيدي هؤلاء: زيد بن ثابت كاتب الوحي، وأعلم الصحابة بالفرائض «المواريث».
كما انتشرت بين المسلمين هذه الحكمة: «اطلبوا العلم ولو بالصين» حتى شاع بين بعض الناس أنها حديث، وما هي بحديث، ولكن معناها صحيح ومقبول لدى الكافة، فالعلم يطلب حيث يوجد، ويطلب من أهله، ولو بأقصى الأرض؛ ولهذا رأينا علماء الصحابة مثل علي وابن مسعود وعائشة وابن عباس وغيرهم يستشهدون بشعر أهل الجاهلية، حتى إنهم يستشهدون به في تفسير القرآن الكريم.
.....
- المصدر: "ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق" لفضيلة الشيخ.
(1) متفق عليه عن أبي هريرة «اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان» (1454).
(2) رواه البخاري في بدء الخلق عن أبي هريرة (3275).
(3) رواه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/121).
(4) انظر كتابنا "الرسول والعلم" (ص52).