د. أشرف دوابة
ما زال الاقتصاد المصري يعاني من أزمات بعضها فوق بعض ولا حلول ناجعة لها، ويتحمل تبعاتها المواطن الذي يتحمل ما لا طاقة له به، في ظل السياسات الخاطئة التي انتهجتها الحكومات المصرية منذ الانقلاب العسكري على أول رئيس مصري منتحب انتخابا حرا من الشعب، حتى وصل الحال بمصر -التي كانت تاريخيا توفر الطعام لدول العالم من قمحها الذهبي- أن يصرح وزير تموينها، علي مصيلحي، أن مصر تجري محادثات مع الإمارات للحصول على تمويل بقيمة 400 مليون دولار لمساعدتها في شراء القمح، وأن هذا التمويل سيأتي من صندوق أبو ظبي للتنمية عبر شرائح تبلغ قيمتها 100 مليون دولا، هذا في الوقت الذي يتعرض فيه العالم لأزمة غذائية بسبب انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب مع أوكرانيا. ومصر هي أكبر دولة مستوردة للقمح الأوكراني بنسبة 22 في المئة، والاحتياطي الاستراتيجي الذي تملكه من القمح لا يكفيها سوى خمسة أشهر فقط وفق تصريحات وزير التموين.
إن أزمة الاقتصاد المصري ليست أزمة إنتاج فحسب، بل هي أزمة نقدية ومالية وأخلاقية، فصادرات مصر متواضعة وتعتمد جل مدخلاتها على الاستيراد، وهذا نتاج طبيعي لتخلف الهيكل الإنتاجي في مصر واعتماده على الإنتاج الريعي دون الإنتاج الحقيقي الذي يوسع دائرة المنافسة ويتيح فتح أسواق جديدة، فضلا عن عسكرة الاقتصاد وغياب التخطيط ودراسات الجدوى للمشروعات، مما دفع بالحكومة إلى الاستثمار بالديون في مشروعات مظهرية لا عائد من ورائها، ولا إنتاج حقيقيا ولا تشغيل للعمالة من خلالها.
كما شهدت مصر تخبطا مستمرا في إدارة السياسة النقدية نتج عنه انهيار الاحتياطي من النقد الأجنبي الذي يمثل كله إلا قليلا ودائع عربية، إضافة إلى التضخم الذي هو في تزايد مستمر، وبه ضاعت القوة الشرائية للنقود، واكتوى الناس بارتفاع الأسعار، وذابت الطبقة المتوسطة، وانتشر الفقر في ظل ضعف الحماية الاجتماعية وتعويم الجنيه والخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي.
وكذلك شهدت مصر مظالم اجتماعية في إدارة السياسة المالية من خلال فرض ضرائب باهظة لا يرى المواطن أي أثر ملموس يعود عليه من ورائها، وهو ما أحدث انكماشا للقطاع الخاص وتمددا لاقتصاد العسكر الذي لا يعرف للضرائب مكانا، ولا يدفع أجورا العمالة أو ثمنا للموارد. وفي الوقت نفسه ما زالت الحكومة مستمرة في مشاريعها المظهرية وما يترتب عنها من إنفاق غير رشيد، ودين عام اقترب من تغطية الناتج المحلي الإجمالي وفق تصريحات حكومية.
وقد بلغت فوائد الديون في الموازنة المصرية 2022/2023 مبلغ 1.12 تريليون جنيه، بارتفاع بنسبة 44.5 في المئة، وتتوقع وزارة المالية أن تستحوذ مدفوعات خدمة الدين، الداخلي والخارجي، على حوالي 52.3 في المئة من الإيرادات، وتمثل 37.4 في المئة من إجمالي المصروفات في موازنة السنة المالية 2023/2024، على خلفية ارتفاع تكلفة الاقتراض وتغير سعر الصرف.
وهذا في الوقت الذي تبيع فيه الحكومة أصولا مصرية بصفة مستمرة، وليس آخرها عرض 32 شركة حكومية للبيع، وعرض بيع 7 فنادق تاريخية، بل وبيع مشروعات اقترضت الحكومة من أجل إنشائها، وليس آخرها مخاطبة الحكومة المصرية البنوك الألمانية المقرضة لمحطات كهرباء سيمنز للحصول على الموافقات اللازمة لطرح حصص من المحطات الثلاث البالغة قدرتها 14.4 جيجاوات أمام المستثمرين، حيث لا يمكن إتمام البيع دون الحصول على موافقة تلك الجهات الممولة.
إن الذين تغنوا بالديون وقروض صندوق النقد الدولي وباعوا ضمائرهم وأخلاقهم في سوق المال باسم الإصلاح الاقتصادي؛ آن لهم أن يحاكموا، حتى أن الحكومة التي كانت تتباهي بشهادة حسن سير وسلوك من الصندوق، لم تتمكن من صرف الشريحة الثانية من القرض الأخير للحذر الذي ترقبه من إعادة تعويم الجنيه مرة بعد مرات، وفقا لإملاءات الصندوق، وفي الوقت نفسه استسلمت لوصاية الصندوق بتعيين مؤسسة التمويل الدولية ذراع مجموعة البنك الدولي (IFC) مستشاراً استراتيجياً لمساعدتها في بيع الأصول، وفي مقدمتها خططها لطرح 32 شركة مملوكة للدولة على مدار عام كامل، وذلك لمستثمرين استراتيجيين أو للاكتتاب العام في البورصة المصرية أو كليهما؛ لمواجهة نقص النقد الأجنبي.
إن الاقتصاد المصري للأسف الشديد دخل في نفق من الأزمات حتى وصل الأمر إلى الكهرباء الذي أصبح انقطاعها عادة حكومية يومية، ولن يُخرج مصر من هذا النفق المظلم إلا إصلاح سياسي حقيقي، يمكن من خلاله التخلص من هذه الديون البغيضة وفق القانون الدولي، وبناء اقتصاد وطني حر يعتمد على الإنتاج الحقيقي مع خدمة السياسة النقدية والسياسة المالية لهذا الإنتاج.