بقلم/ أ.د. إسماعيل علي

أستاذ بجامعة الأزهر

إن "عاشوراء" سيظل مَعلمًا بارزًا في سجل الصراع بين الحق والباطل، وذِكْرى مُلهِمةً لكل داعٍ إلى الحق، وزادًا يمدُّ المؤمنين بالقوة النفسية والرُّوحية التي تعينهم على مواصلة الجهاد لنصرة دين الله، وتقوِّي من عزيمة المستضعَفين، وتبدد مِن حولهم ظلمات اليأس، وتُحْيِي فيهم عبادةَ التوكل على رَبّ الأرباب، ومالكِ الرِّقاب، العزيزِ الوهّاب.

إنه يومٌ من أيام الله الذي شهد هلاكَ أحدِ عتاة المجرمين على مرِّ التاريخ، وتدميرَ ما يمكن تسميتُه بـ "الظاهرةِ الفرعونية"، ليبقى انكسارها مثلا وعبرة لمن أرداد أن يعتبر.

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 90 - 92].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ، لما قدم المدينة، وجدهم يصومون يومًا ـ يعني عاشوراءَ ـ، فقالوا: هذا يومٌ عظيم، وهو يوم نَجَّى اللهُ فيه موسى، وأَغرَق آلَ فرعون، فصام موسى شكرًا لله، فقال ﷺ: «أنا أولى بموسى منهم»، فصامه وأَمر بصيامه. [أخرجه البخاري ومسلم].

 في يوم "عاشوراء" تجلّت سنةٌ من سنن الله في الظالمين المتكبرين الباغين، وهي إهلاكهم واستئصال شأفتهم، وقطع دابرِهم، ومعهم أعوانهم ومؤيدوهم وأشياعُهم، ومَن يُصَفِّقون لهم، ويرضون ببغيهم وعدوانهم.

إنه عادة ما تُسلَّط الأضواء في ذكرى "عاشوراء" على إهلاك الله لـ "فرعون"، دون إهلاك بقية عصابته !!

والواقع أنه يجدر بنا أن نسلط الضوء على حقيقة هامةٍ، وهي أن الإهلاك لم يكن مقصورًا على "فرعون" وحدَه؛ بل شمل بقية مكوِّنات "الظاهرة الفرعونية"، وأعني بها ثلاثة مكوِّنات، هي:

  • فرعون.
  • أعوانه وجنوده.
  • شعبه ومؤيدوه ومناصِروه.

ولقد أكثرَ اللهُ ـ تعالى ـ في القرآن الكريم من الحديث عن "فرعون" وسلوكِه وعقوبتِه ونهايتِه التي تليق بمثله من المستكبرين المتألِّهين.

ولعلّ مِن حِكَمِ هذا التكرار أنّ الحديث عن "فرعون" كشخص ـ مع إجرامه ـ ليس المقصودَ الأصليَّ؛ وإنما المقصودُ هو الحديثُ عن "فرعون" باعتباره ظاهرةً تتوالى مع العصور، وتتكرر خلال الأزمان، تنبيها إلى خطورة هذا النموذج وضررِه على الحياة والأحياء، وليتّعِظ كلُّ مَن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد، وطمأنينةً للمقهورين بأن الله ـ لا شك ـ قاصمٌ ظهورَ الجبارين الفراعين، وناصرٌ للمستضعفين.

وقد أكَّد القرآن الكريم على أن العقاب الإلهيَّ قد نال جميع مكونات تلك الظاهرة الفرعونية البئيسة.

  • أمّا "فرعون" فمصيرُه أظهر من أن يَخفَى، وإهلاكه سيظل آية لن تُمْحَى، {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 25، 26]، {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92].
  • وماذا عن جنود "فرعون" وأعوانِه:

لم يكن جنودُ "فرعون" وأعوانُه في ميزان العدْلِ الربّانيِّ إلا مجرمين ظالمين مثلَ سيّدِهم، فحَكَم عليهم ربُّ العالمين بأنهم شركاءُ للطاغية "فرعون" في الإجرام والعصيان.

قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8].

وأذاقهم الله مِن العقاب الربّانيِّ مثلَ الذي حلَّ بالطاغيةِ الذي كانوا يأتمرون بأمره، فيقتلون ويبغون في الأرض، ولم يشفع لهم أنّهم كانوا ينفِّذون الأوامر الصادرة إليهم من سيدهم المجرم.

قال تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 39 ـ 42].

  • وماذا عن شعب "فرعون"؟

أما شَعْبُ "فرعون" ومُحبّوه، ومؤيدوه الذين يصفِّقون لباطله وبَغْيِه، ويرقصون على آهات المظلومين، ويغَنُّون على أَنّات المجروحين؛ فلم يكن لهم مِن عُذرٍ على تأييدهم للطاغيةِ وهو يقتل ويتكبر ويبغي الفساد في الأرض، فأصبحوا شركاء له في المصير مثلما باتوا شركاء في الجُرم.

قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 54 - 56].

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال: 54].

{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46].

وهذه سنة ماضية في الشعوب التي ترضى بظُلْم الظَّلَمة، وتؤيد الطغاة الباغين، وتقر الآثمين المعتدين، كما حدث لقوم "ثمود".

قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 11 - 15].

والدّمدمة: إهلاك باستئصال، أَيْ أَهلَكَهم، فجَعَلهم تحت التراب.

ومع أنّ الذي عقر الناقة كان أشقاهم، واسمه "قُدَار بْنُ سالِف"؛ إلا أنّ الله تعالى أسندَ القتل إلى الجميع، وعاقب الجميع، وأكَّد سبحانه على تساويهم في العقوبة والاستئصال!!

 والسبب في هذا أنهم قد رضوا بفعله، وأقرُّوه على طغيانه، وأَعْطَوْه موافقَتَهم، وفوَّضوه أعانوه.

قال المفسرون: وَأُضيفَ إلى الكُلّ لأنّهم رَضُوا بفِعله، فسَوَّى الأُمّةَ في إنزال العذابِ بهم، صغيرَهم وكبيرَهم، وضِيعَهم وشريفَهم، وذَكَرَهم وأنثاهم.

قال قتادةُ: بَلَغنا أنّ أُحَيْمِرَ ثمودَ لَم يَعْقِرِ النّاقةَ حتّى تابَعه صغيرُهم وكبيرُهم، وذَكَرُهم وأنثاهم، فلَمّا اشتَرَك القومُ في عَقْرها دَمْدَمَ اللَّهُ عليهم بذنوبهم فسوّاها. [ترجَع كتب التفسير مثل "القرطبي" و "ابن كثير"].

وعن العُرْسِ ابن عَمِيرة الكِنديّ، عن النبيّ ـ ﷺ ـ قال: «إذا عُمِلَت الخطيئةُ في الأرض كان مَن شَهِدها فكَرِهَها ـ وقال مرة: فأنكرها ـ كان كمَن غابَ عنها، ومن غابَ عنها فَرضِيَها كان كمَن شَهِدها». [أخرجه أبو داود، والطبرانيُّ في المعجم الكبير ـ وحَسّنه الأرنؤوط ـ].

ويمضي التاريخ، وتتكرر "الظاهرة الفرعونية" بمكوِّناتها الأثيمة البئيسة، في أماكن شتى من العالم!!

ولكنّنا لا ننْسى أبدًا قدَرَ الله المحتومَ، وسنّتَه الماضيةَ التي لا تتخلّفُ ولا تتبدّلُ في الفراعين وأشياعِهم وأعوانِهم، على مرّ العصور.

ولا ننسى أبدًا أنّ نَصْر المظلومين، والانتقام مِن الظالمين الباغين سنّةٌ ماضية إلى يوم الدين.

وكما يُطْبِق الليل بظلامه؛ يُشرق النهارُ بضيائه.

{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 ـ 6].

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].

وعن أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله لَيُمْلِي للظالم حتى إذا أَخَذه لم يُفْلِته»، قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102، أخرجه البخاريّ].

اللهم إنا نسألك أن تنتقمَ مِن الظالمين الباغين، وجنودِهم وأعوانِهم وأشياعِهم، وكلِّ مَن رضِي بظلمهم، وبغْيهِم، وحرْبِ دينك، وقتْلِهِم للأبرياء، وترويعِهم للآمنين، وإفسادهم البلاد، وأخْذِ أموال الناس بغير حق.

اللهم أرِنا ثأرَنا منهم أجمعين، واجعلهم سَلَفا ومثلا للآخِرين، عاجلا غير آجل، واقْتَصّ لنا منهم في الدنيا والآخرة، يا نصيرَ المظلومين، ويا مُهلِك الظالمين المتجبرين، يا رب العالمين.