إحسان الفقيه

حب الوطن أمر فطري لدى الإنسان، قد جُبل على هذا الحب، والمطالع لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يجد بوضوح هذا الحنين الذي اعتمل في نفوسهم تجاه مكة أرض المنشأ بعد هجرتهم إلى يثرب، بل إن القرآن الكريم كشف عن كوْن البعد عن الأوطان عقوبة كانت الأمم الجائرة المكذبة، تهدد بها أنبياء الله وأتباعهم «لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا»، «اخرجوا آل لوط من قريتكم». وكل من تأتي عليه لحظات يتفوه فيها، أنه لم يعد يحب وطنه، فإنما هو تعبير عن حنقه على حكامها والقائمين عليها، إذا مارسوا الظلم تجاه رعيتهم، أي ليس بغض الوطن ذاته، وربما يعيد اكتشاف حبه لوطنه مع أول ساعة تطأ فيها قدماه أرض الغربة.

في هذا العصر خاصة، وفي ظل الأنظمة القمعية، صارت هناك معايير جديدة للانتماء إلى الوطن، أو إن صح التعبير أكاذيب يتم ترويجها باعتبارها فيصلا بين محبي الوطن ومبغضيه. من أكبر هذه الأكاذيب، توصيف الدولة على أنها النظام بمؤسساته، وجعله معيارا ومقياسا للانتماء إلى الوطن. انتقد وعارض رأس النظام، أو طالب بتغييره، انتقد عمل مؤسسات الدولة الصلبة، خاصة القوات المسلحة، حينها ستكون خائنا، عميلا، تنفذ أجندة خارجية لإسقاط الدولة. إن لم تتحمل الظروف المعيشية الصعبة، وأبديت سخطك على فشل النظام في قيادة المسيرة الاقتصادية لبلادك، فأنت تسعى لخراب الدولة، وحتما أنت مأجور ومتعاون مع جهات معادية تريد النيل من البلاد.

أصبحت الصورة المثالية للوطنية هي الترنم ليلا ونهارا بإنجازات الزعيم، وإظهار التمسك به باعتباره سفينة نوح التي سينجو عليها الشعب، ويعبر إلى بر الأمان، ولا ريب في أن هذه الصورة مريحة وآمنة، لأنها تلقى الدعم الكامل من النظام، ويزيد من بريقها وتوهجها أنها تعمل برعاية إعلامية تقوم بتلميعها وإظهارها كنموذج وطني. هذه الصورة المكذوبة، أصبحت ملاذا لكل من يتقي التصنيف بمعاداة الدولة، والبعض يعمل على خداع نفسه ليصطبغ بها قلبا وقالبا، فينسى مع طول الأمد أنه أفّاق متزلف.

وجود المعارضة على مرّ التاريخ صمام أمان لاستقرار الدول، وأعني بها المعارضة النزيهة الفعالة، التي تحرص على الصالح العام لا المصالح الخاصة أو الحزبية، ولم تزل الدول تتمتع بوجود المعارضين، من دون أن يُتهم المعارض بالخيانة لوطنه. أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وجد من يسائله عن الثروة على الملأ، وجد من يقول له من أين لك هذا؟ ليس في مليارات الدولارات المسافرة إلى البنوك الأوروبية، وإنما في ثوب زائد ناله الخليفة بينما كان للناس ثوب واحد، وهدأ الصوت المعارض بعدما برّأ الخليفة نفسه بشهادة ولده الذي أعطاه ثوبه، لأن أباه رجل طويل القامة لا يكفيه ثوب واحد. لم يتهِم الخليفة ولا رعيته هذا المعارض بالخيانة للوطن، بل كانت المحاسبة والمساءلة مطلبا أبداه الصدّيق أبو بكر عندما قال: «قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني».

نضحك حتى البكاء عندما نرى المعارضين في الدول المتقدمة وجرأتهم والمساحات الشاسعة التي يتحركون فيها، بينما المعارض في بلادنا المعترض المنتقد للنظام ومؤسساته فاقد للانتماء. كتبتُ سابقا وما زلت، عن شأن المعارضة الشرسة في تركيا، في انتقادها اللاذع للنظام التركي وساحات القضاء التي تشهد دعاوى محررة ضد رئيس الجمهورية، أو رجاله، والصحف المعارضة الجريئة، واعتبرت كل ذلك ردا قاطعا على توصيف أردوغان بأنه ديكتاتور. مثل هذه المعارضة تصب في صالح الوطن، فهي صمام أمان للنظام ذاته حتى لا ينحرف في مساره عن العمل لصالح الشعب، وتجعل النظام في حالة استنفار دائم بكل أدواته وطاقاته، فهو يعلم أن هناك من يراقبه ويعارضه بقوة.

في معظم بلادنا العربية أصبحت المعارضة في كثير من الأحيان كائنا هلاميا تعمل الحكومة على إيجاده كـ»ديكور»، ليتولى الإعلام مهمة النفاق المعهودة في إظهار المناخ الديمقراطي ومساحة الحريات الشاسعة التي أنعم بها الزعيم الملهم ونظامه المُبجل على معارضيه، لذلك جرت العادة في معظم البلدان العربية أن تكون مدة تنصيب الحاكم هي حياته كلها، فلا ينزل من على عرشه غالبا إلا إلى مقبرته، كيف لا وقد صارت محبته والرضا عن سياساته معيارا للوطنية، فليفعل ما يشاء، فسوف يبقى بمحبيه الوطنيين إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. أتخيل حال ذلك المواطن الذي يعشق تراب بلده، وهو يرى أن التطبيل للنظام وتحسين صورته وتجنّب انتقاده، أو معارضته، هو لُبّ الوطنية والتعبير الأمثل عن قوة الانتماء، هل يخوض مع الخائضين ويخون قناعاته؟ أم يعرض نفسه لتهمة كراهية الوطن؟

لن تقوم للدول العربية قائمة حتى تكون فيها معارضة حقيقية لا كرتونية، وأولى لمن جبُن عن المعارضة الحقيقية أن يغلق فمه ويلزم رحْله، لا أن يتحول إلى بوق إعلامي يروج للفساد والقصور الإداري ويسهم في تمييع معايير الانتماء، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

المصدر: القدس العربي