بقلم د/ منى صبحي 
متخصصة في قضايا المرأة والأسرة
 

   رجل ناهز الخمسين ، يتوقد همة وحيوية ، يُطل برأسه من غارٍ أعلى الجبل ويتفحص بنظرة ثاقبة السهول المحيطة به ، ثم يعود الى صاحبه مطمئنا اياه ، لتبدأ رحلة المغادرة بعد ٣ ليال حافلة بأحداث غير عادية ..

  كانت أقصى أمنياته أن يكون رفيق سفر لخير صاحب عرفه منذ سنوات طويلة ، ويشاء الله أن يصطفي صاحبه على البشر جميعا ، فكان أول من صدّق برسالته وآمن بنبوته من الرجال ..

  لم يتمالك نفسه وهو يبكي فرحا و رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه بصحبته ، ويدفع له ثمن راحلته ، وفي الغار يتوسد حجره ليغفو قليلا بعد أن نجاه الله من مكر قومه وتخطيطهم لاعتقاله أو قتله أو نفيه شأن المجرمين في كل زمن ..

  كانت فترة الاختباء معايشة عملية على مدار الساعة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ صقلت روحه النقية وسمت بهمته التي وصفتها ابنته الصدّيقة عائشة : (كنت للدنيا مذلا باعراضك عنها ، وللآخرة معزا باقبالك عليها) ، حتى صفت من الكدر والقلق على رسول الله (لاتحزن ..ان الله معنا) وهل بعد استشعار معية الله حقا من خوف ؟!

  هنيئا لك ياصاحب رسول الله وقد أدى بك  صدقك مع الله وتصديقك لرسول الله الى أن تستعذب التضحية والبذل والعطاء بكل ماتملك من نفس ومال وأهل وولد ومسكن طيب و تجارة رائجة ومكانة في قومك ، وذلك ابتغاء وجه ربك الأعلى ..فكنت الأتقى..وتلك مرتبة الصديقين ، وأنعم بها من منزلة !

  ياصاحب رسول الله ..هجرتك الى الله بقلبك سبقت هجرتك بجوارحك فلم يعد في حساباتك مراتع ولّت ومرابع قفرت ، فدرب الهجرة لايقلّ الا الأنبياء والصديقين والمجاهدين الذين اذا مُنعوا من اقامة دين الله في أرض هاجروا الى أخرى ليواصلوا دعوتهم الى الله ، ولا يرد هذا الطريق الا حملة الراية و من فقه الغاية ..

  ياصاحب رسول الله ..عامر بن فهيرة (وقد ارتقى شهيدا في سرية بئر معونة) ترك لنا أثر مشيك بين يدي رسول الله ، فتسابق الوف الالاف على اقتفاء الخطو المبارك ..هم الكبار من الشباب والنساء والكهول ، تضئ عزماتهم  عتمة الزنازين .. يقبضون على الجمر ويتجرعون الصبر ، ويحتملون صنوف الايذاء حسبة لله ووفاء لبيعهم مع الله ، ويقينا لايخالجه الشك : أن الله معهم ..وهم  أيضا آلاف المهاجرين بدينهم ، المستعلين بايمانهم على كل صور المكر والخديعة ؛ الرقم الصعب في معادلة الصراع بين الحق والباطل ، غير قابل للانحناء أوالانحراف عن الثوابت والأصول في أزمنة تسوغ الشرب من النهر حد الثمالة والهوان !

  ياصاحب رسول الله ..مازالت الصدّيقة أسماء تُلهم الحرائر في كل مكان وزمان ، وقد خرجن من خدورهن يحملن الزاد في نطاقهن للأحرار خلف الاسوار ، ويجددن العهد كل يوم مع الله ؛ وتعجز سفاهة (أبو جهل) أن تنال من ثباتهن وكبريائهن واخلاصهن لله ورسوله ، و تخفت شكوك (أبو قحافة) أمام حكمتهن ووعيهن وحسن تدبيرهن !

  ياصاحب رسول الله ..صغارنا يكبرون مع سيرة الصدّيقة عائشة (أم المؤمنين) وقد وعت على حداثة سنها تلك اللحظة الفارقة في تاريخ البشرية و حفظت لنا القصة بتفاصيلها لتضيف لأعمارنا أعمارا أخرى تحسن الاهتداء وتحرص على الاقتداء ..  ويظل البطل الصغير عبد الله عنوان الرجولة المبكرة والتربية الحقة ، وليهنأ الصدّيق بحسن رعايته لأهل بيته واستقامتهم على أمر الله وحب رسوله ،ويزدان شرفا ويعلو قدره بمصاهرة خير خلق الله ..صلى الله عليه وسلم..

  ومن غار ثور انطلق الحبيب المصطفى وصاحبه الصدّيق الى أرض صدق ونصرة وطاقة نور ، وبينهما مسيرة أيام حافلة بالمواقف والبركات ..

..وفي هجرة الأنبياء والصدّيقين و الصادقين دائما  محطات وحكايات ..تَروي ..وتُروى !