{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} وردت هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال تعقيبًا على غزوة بدر الكبرى، والتى منَّ الله على المؤمنين فيها بنصر عزيز مؤزر، نسأل الله مثله لإخواننا فى فلسطين هذه الأيام.

وتبين هذه الآية الكريمة -شأنها فى ذلك شأن القرآن الكريم كله- مجموعة من الحقائق، وتسرد صورًا من وقائع، وتصور حالات نفسية، ورغبات بشرية، وغير ذلك مما يجب على السائرين فى طريق الله، والمجاهدين، والساعين لإعادة مجد هذه الأمة أن يفقهوه جيدًا، ومن ثم يحسنون التعامل معه.

من هذه الحقائق وعد الله لعباده المؤمنين بالخير والنصر والتمكين، وأنه- سبحانه- هو وحده من يدير أمور الصراع بين الحق والباطل، وأن له- سبحانه- سننا فى حركة هذا الصراع، وغير ذلك كثير، والقرآن لا ينفد عطاؤه. لكن الذى نود الالتفات إليه والعناية به من دروس هذه الآية الكريمة تلك الحقيقة النفسية، وذلك الجانب من الطبيعة البشرية، ألا وهو الرغبة فى الخير السهل العاجل، وكراهية ما عداه من ذوات الشوكة، وإن كان فيها  من الخير ما فيها.

هذه الحقيقة فى غاية الأهمية إدراكها وفهمها والانتباه إليها، لاسيما فى وقت المواجهة، حين يشتد الأمر، ويسفر الشر عن وجهه القبيح، ويجاهر الشياطين بحقيقة أحقادهم، ومدى إجرامهم. حين يتكشف حجم العداء وطبيعته وعمقه، حين يتضح زيف الحضارات المادية بقيمها ومبادئها وشعاراتها البراقة الخادعة، حين تفضح جدية المواجهات وحشيتهم وقذارتهم. حين تسيل الدماء بلا حساب، ويقتل الناس بلا اكتراث، حين لا يفرق المجرمون بين شيخ ورضيع وامرأة وصبية، فإذا بالقتل بديلًا عن الطعام والدواء والماء والهواء. حينما يمنع ملايين الناس من كل ضرورات الحياة، بل يحرمون من الحياة.

فى هذه الأوقات تظهر أهمية فهم وإدراك هذه الحقائق وما يماثلها، ويصبح من ضرورات المعركة استدعاؤها والتعامل معها، لأنها حقيقة، ولولا أهميتها وخطورتها وأثرها فى موازين القوى ما ذكرها الله فى كتابه، بينةَ واضحةَ لا لبس فيها.

إن الناس- كل الناس- مجبولون على حب الخير السهل، يأنفون من كل صعب شاق، يودون غير ذوات الشوكة فى كل أمورهم، وذلك سبب لكثير من ضعف الهمم، وفوت المعالى من الأمور، فحين يرى المسلمون دماء إخوانهم على الشاشات تنهمر الطوفان، ويشاهدون بأعينهم عدد الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ والعزل، حين يتابعون حجم التدمير، وحجم المعاناة، وحجم المخاطرة، فلا ريب تتحرك فى النفوس هذه الطبيعة الجبلية، من الطبيعى أن يجزع البعض، ويشتد الأسف، ويعظم فى بعض النفوس الثمن. ثمن عزة هذه الأمة وانتصارها وتمكينها. ثمن حريتها، وإزاحة أعدائها ورجسهم عن مقدساتها ومقدراتها. ثمن التطهير والتحرير، ثمن التخلص من الأعداء والمنافقين. ومن الطبيعى أن يستثمر المنافقون والأعداء وشياطين الإنس والجن فى تلك المشاعر والأحزان.

ولهذا علمنا القرآن الكريم حقائق الصراع وسننه، إن الناس لا يودون ذات الشوكة، لا يودون رؤية الدماء والأشلاء، لا يودون أن يجوع أصحاب الحق فى بلادهم، أو أن يموت مرضاهم بلا دواء، لا يودون هدم البيوت وتفجير الأحياء السكنية بكاملها، كل ذلك طبيعى معلوم. لكن سنة الله وإرادته أن تكون المواجهة بين الحق والباطل، فلن ينتصر الحق بنيات طيبات، وعبادات صالحات، من دون جهاد ومعاناة، وإلا فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى بنصر الله! لكن سنة الله أن تكون المواجهة بين الفريقين، وأن يكون الجهاد على أشده بينهم، اقتضت سنة الله أن يبذل أصحاب الحق دماءهم أموالهم وكل ما لديهم رخيصةً فى سبيل حقهم، وأن يتمادى المجرمون فى غيهم وفسادهم، أن يتمادى القتلة فى سفك الدماء، ويتمادى المنافقون فى دعمهم، والتضييق على أهل الحق، وسحقهم، كلٌ بما فى وسعه. سنة الله أن يتمايز الناس، حتى يكون الحق وأهله فى معسكرهم قد استفرغوا وسعهم، وبذلوا طاقتهم، ولم يدخروا من ذلك صغيرًا ولا كبيراً. ويكون أهل الباطل على اختلاف ألوانهم وأشكالهم فى معسكرهم يجتهدون وسعهم، يبذلون من أرواحهم وأموالهم فى سبيل باطلهم. لا يتوقفون عن قبيح، ولا يتورعون عن جريمة، ولا تمنعهم فضيلة، وتلك حقيقتهم أنهم عراة عن كل فضيلة، نهمون لكل فساد وتخريب. 

ولولا ذات الشوكة ما كان هذا التمايز. ولولا ذات الشوكة ما تكشفت الحقائق. ولولا ذات الشوكة ما استحق المجاهدون النصر، ولا استحق المجرمون الخزى، لولا ذات الشوكة ما تحقق وعد الله، بالنصر والتمكين لأوليائه الخلص، ولما تحقق وعده الصادق بقطع دابر الكافرين، لولا ذات الشوكة ما ظهر نفاق المنافقين، وفساد المفسدين، وزيف المدعين، وانتحال المنتحلين.

نعم، يحزن الطيبون لما يصيب الأبرياء، ولا تتحمل أعينهم وآذانهم إجرام المجرمين، لكن علينا أن ندرك حقائق الصراع الأبدى بين الحق والباطل. وعلينا أن ندرك طبيعتنا البشرية التى جبلنا الله عليها، وندرك رسالتنا فى هذا الوجود، وندرك دورنا فى هذا الصراع، ونحذر من شياطين الإنس والجن، ونحذر من ضعفنا، واختلاط أفهامنا، ونحذر أن تكون العاطفة محل العقل، أو كلاهما محل القرآن والسنة.

إننا فى حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل، وإنه صراع ممتد من بداية الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وإنه صراع دموى رهيب، لا يستسلم فيه الباطل، ولا يترك ميادين الحياة للأخيار سلمًا، ولا يوقفه إلا جهد أصحاب الحق وجهادهم، ولا ترتوى شجرة النصر إلا بالدماء الزكية الطاهرة، ولا تعلو راية الله إلا بتضحيات عزيزة، ففى هذا الصراع سالت دماء الأنبياء، ومن العجيب أنهم قُتلوا على يد مجرمى اليهود! 

فى هذا الصراع يحلو للمؤمن جهاده، ويسأل الله الشهادة بصدق، ويعد لها عدتها، وتستبشر الأمة كلها بأبنائها المجاهدين، وأبنائها الشهداء. فهؤلاء وحدهم يقودون الأمة لمجدها وسيادتها، وتمكينها وسعادتها.

تلك بعضٌ من سنن الله، التى لا تتخلف. ولذا فعلى كل مؤمن أن يعرف حدود ما أمر الله به وقضى، من سننه الكونية وأوامره الشرعية، يفهم، ويلتزم، يعلم ويعمل ويدعو، ثم عليه أن يجتهد ليكون من هؤلاء المجاهدين الشرفاء، فى ميدانه، بل ميادينه التى يسرها الله له، حتى يأذن الله له بإحدى الحسنيين.