إحسان الفقيه
في وقت الحرب تنخلع قلوب الأمهات على أبنائهن، وودت كل أم لو تعلقت بثياب ولدها الراكض باتجاه المنايا، لكن ليلة «القادسية» كانت على موعد مع امرأة من طراز خاص، إنها الخنساء، التي جمعت بنيها ليلتئذ، تحرضهم على الجهاد والسعي إلى نيل الشهادة، فلما دفعتهم إلى ساحة المنايا قاتلوا قتال الأسود حتى لقوا ربهم مقبلين غير مدبرين، فقالت: «الحمد للَّه الَّذِي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم فِي مستقر رحمته»(1).
أمتنا ولودٌ، مهما عصفت بها الملمات، ففيها بقية من خير، تسير على خطى السابقين، يتمثلون شيم السابقين الأولين، وفي غزة آلاف من النساء كلهن الخنساء، فلو رأيتَ ثَمَّ رأيت خنساء تشيع ولدها بتهنئة تشيب لها الرؤوس: «هنيئاً لك الحور يا ولدي».
وخنساء تخرج على رؤوس الأشهاد تودع زوجها وهي تجدد العهد على الصمود؛ إما إلى نصر أو شهادة.
وخنساء قد احدودب ظهرها، ورق عظمها، وبرزت تجاعيد وجهها، تعطي درساً للصهاينة في التمسك بتراب الوطن، وأنه لن يكون هناك نزوح آخر بعد نزوح النكبة، فهنا المحيا وهنا الممات.
المرأة الغزاوية آية من آيات الله في الصمود لا تضاهيها امرأة في مكان آخر
وخنساء توقد بين الأنقاض لتنضج خبزاً والبسمة تكسو وجهها رضا عن الله، وكأنها تنطق بلسان حالها ما قاله شيخ الإسلام: «مَا يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني فِي صدري، أين رحت فَهِيَ معي، لا تفارقني؛ أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة»(2).
أمثال هؤلاء النسوة قد أنجبن شباب المقاومة الذين يقاتلون من على مسافة صفر مكبّرين، يحرصون على الموت في سبيل الله أكثر مما يحرص الصهاينة على الحياة، يعيشون حياتهم بين قرآن وبندقية، يسجدون لربهم على التراب إذا ترجلوا، ويؤدون صلاتهم تحت الماء إذا ما غاصوا، لا همَّ لهم سوى تحرير الأرض أو تكون لهم فيها قبور.
المرأة في غزة آية من آيات الله في الصمود، لا تضاهيها امرأة في مكان آخر، بما يجعلنا نتساءل فاغرين أفواهنا دهشة، عن سر ذلك الصمود؟! عن تلك العوامل التي شكلت كل هذا البأس؟!
قوة العقيدة
عندما نتحدث عن قوة العقيدة في قلب المرأة الغزاوية، فلا نعني بها العلم النظري –مع الاعتراف بأهميته القصوى- وإنما العيش بالعقيدة واقعاً، فلك أن تتخيل حال امرأة حوصرت بلدها من جميع الجهات على مدى 16 عاماً، فأنى يكون توكلها على ربها الذي يرزق الطير فتغدو خماصاً وتروح بطاناً، فلا تتعلق إلا بالله الرزاق.
ولك أن تتخيل حال امرأة عاشت أهوال القصف والدمار والنيران، فكيف يكون دعاؤها واستغاثتها ورجاؤها وسط هذه الأجواء، وإنها مهما رأت خذلان الأمة وطأطأة الرؤوس أمام القوة الصهيونية الغاشمة التي يحميها ويدعمها الغرب، فإن ذلك لا يزيدها إلا يقيناً بمدلول كلمة «الله أكبر»، فيقينها أن الله أكبر من كل هذا البطش، وأكبر من كل هذا التجبر.
اصطفاها الله بصفاء عقيدة الولاء والبراء التي لُبِّس فيها على كثير من المسلمين، والذين جهلوا طبيعة الصراع، وآخرين يرون قبول الصهاينة في الحضن العربي الإسلامي ضرورة من ضرورات إحلال السلام المزعوم، أما هي فقد فطنت لأنه صراع عقيدة، صراع هوية، فكيف لا تظهر في «طوفان الأقصى» بهذا الصمود؟!
.. عركتها الحياة وفركتها خشونة العيش تواجه الحصار بآمال الانتصار
المرأة في غزة نشأت وكبرت على خشونة العيش، ليست هي بالمرأة المدللة الباحثة عن أحدث الموضات في لباسها وزينتها، وليست هي المرأة التي تقضي الساعات الطوال أمام المجلات الأجنبية تقلم لها خادمتها أظافرها، وليست هي المرأة التي تراوح بين المنتجعات والمنتزهات.
هي امرأة عركتها الحياة، وفركتها خشونة العيش، تعالج الغناء بالاستغناء، وتواجه الحصار بآمال الانتصار، دأبت يداها على معاقرة العجين، وهي مع ذلك ابنة شهيد أو أسير أو جريح، وأم شهيد أو أسير أو جريح، وأخت وجارة شهيد أو أسير أو جريح، كم شيع بصرها من جنائز، وألف سمعها صوت أزيز الطائرات، واعتاد أنفها رائحة الدخان والنار.
هي المشاركة في النضال ضد الاحتلال، هي من ذلك الصنف من النساء اللاتي قمن عام 2006م، بفك الحصار عن عدد من عناصر المقاومة قد حوصروا بمسجد النصر في بيت حانون بقطاع غزة، واجهت مسيرتهن الحاشدة طلقات الرصاص في طريقهن إلى المسجد، فدخلنه وأشغلن جنود الاحتلال وقمن بتأمين خروج المجاهدين، فسقط منهن شهيدات وجريحات.
هي ذاتها المرأة التي كانت تساند المقاومة إبان الوجود الصهيوني في غزة، بالقيام بدور المراقبة للشوارع، ومساعدة شباب المقاومة على التخفي، وتوفير الإسعافات للمجاهدين وإمدادهم بالبصل والعطور لإبطال مفعول القنابل المسيلة للدموع، وتكوين مجموعات تقوم بحملات رشق الصهاينة بالأحجار.
.. لم تفتّ في عضد المقاومة وتربي أبناءها وأحفادها على التمسك بتراب غزة
مثل هذه المرأة تعيش على قاعدة إحدى الحسنيين؛ النصر أو الشهادة، فكيف لا تكون بهذا الصمود في «طوفان الأقصى».
عدالة القضية
وبالضد تتميز الأشياء، يقول د. عبدالوهاب المسيري: «في «قصة الحالمة» للكاتبة «بنيناه عاميت»، نجد أن البطلة سيطر عليها الخوف والكوابيس، فهي تحلم بالقنابل والمعارك والحرب، وحينما تسألها أمها: لماذا لا يكون لي حفيد في النهاية يا ابنتي؟ فإنها تلوذ بالصمت»، يعقب المسيري بقوله: «عدم الإنجاب إنما هو انعكاس لوضع خاص داخل المجتمع «الإسرائيلي»، وتعبير عن قلق «الإسرائيليين» من وضعهم الشاذ باعتبارهم دولة مغروسة بالقوة في المنطقة»(3).
فالمرأة «الإسرائيلية» تعلم أن إقامتها في فلسطين ليس طبيعياً، فلا جذور لها في تلك الأرض، فلذلك تضع معايير السلامة ورغد العيش على رأس أولوياتها، ولذا رأينا الأمهات يتظاهرن لإقالة «نتنياهو» من أجل أولادهن الأسرى لدى المقاومة في غزة، ونسين كل الأحلام الصهيونية الرامية إلى إقامة «إسرائيل» من النيل إلى الفرات، بل طلبن مبادلة «نتنياهو» بالأسرى! وطالبن بإنهاء الحرب رغم ما يمثله من إعلان لهزيمة الجيش «الإسرائيلي»، فهي كسائر قومها؛ (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة: 96)، أي حياة ولو كانت حياة المذلة والهوان.
وفي المقابل، ومع كل ما يلحق بأهل غزة من دمار وتدمير، إلا أن المرأة في غزة لم تفتّ في عضد المقاومة، ولم تمثل ضاغطاً عليها، لأنها تؤمن بعدالة قضيتها، وأنها صاحبة الأرض والجذور والهوية، ومن ثم تربي أبناءها وتحرّض أخاها وزوجها على التمسك بتراب غزة وعدم التفريط فيه، وتفضل أن يكون لها في تلك الأرض قبر على أن تتركها لقمة سائغة للعدو المحتل، تلك هي المرأة في غزة، جبل الصمود الذي سيحكي عنه التاريخ دهراً.
_______________________
(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبدالبر، (4/ 1829).
(2) ذيل طبقات الحنابلة، عبدالرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، (4/ 519).
(3) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، عبدالوهاب المسيري (20/ 315)، بترقيم المكتبة الشاملة.