السؤال: يقول تعالى في كتابه الكريم {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}، فهل نفهم من هذا أن التعب والبلاء هو طبيعة الحياة؟

 جواب فضيلة الشيخ القرضاوي رحمه الله:

الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.. وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فهذه الآية: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}، هي الآية الرابعة من سورة البلد، وهي سورة مكية بلا ريب. وقد بدأت هذه السورة بالقسم بـ{هذا البلد}، وإن كان ظاهره النفي، ولكنه يؤكد أنه من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم. و{هذا البلد} يعني: مكة المكرمة، البلد الحرام، وفيه البيت الحرام. والقسم بـ {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} ولعله بإبراهيم، وما ولد من إسماعيل وأبنائه. وكان المقسم عليه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}. فالآية إذا جواب للقسم السابق.

وهو قسم من الله تعالى بأنه خلق الإنسان في شدة وعناء، وتعب ومشقة. مكابدات مستمرة منذ الطفولة وما بعدها، إلى الموت. فإنه لا يزال يقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح فيه، إلى حين نزعها منه، وما وراءه. يقال: كبد الرجل كبدا، إذا وجعت كبده. وأصله كبده. إذا أصاب كبده، ثم اتسع فيه، حتى استعمل في كل نصب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة.

وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان يكابده من كفار قريش. وقال الحسن: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وعنه أيضا: يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء؛ لأنه لا يخلو من أحدهما.

قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سُرَّته، ثم إذا قُمط قِماطا، وشدَّ رباطا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابدُ الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرُّك لسانه، ثم يكابد الفطام، الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصَوْلته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته..

ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صُداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغمِّ الدَّيْن، ووجع السِّنِّ، وألم الأذن.

ويكابد محنا في المال والنَّفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضى عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مساءلة المَلَك، وضغطة القبر وظلمته؛ ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة وإما في النار؛ قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَاَن فِي كَبَدٍ} فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد. ودل هذا على أن له خالقا دبَّره، وقضى عليه بهذه الأحوال؛ فليَمتثل أمره.

 كل الأئمة والدعاة والهداة، عظَّموا من مكابدة الإنسان لمشاق الحياة، كما قال علي حين طلب منه أن يصف الدنيا: ماذا أصف لك من دار أولها بكاء وأوسطها عناء وآخرها فناء؟

وقال ابن الرومي يدل على هوان الدنيا:

لِمَا تؤذن الدنيا به من صروفها  **  يكون بكاء الطفل ساعة يولد

وإلا فما يبكيه منـــها وإنها  **   لأفسح ممـا كان فيه وأرغد

 وعقب أحدهم على ابن الرومي، فقال:

ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا  **  والناس حولك يضحكون سرورًا

فاثأر لنفسك كي تكون إذا بكوا  **  في يوم موتك ضاحكاً مسرورًا

ونحن نرى القرآن الكريم يبين حقارة الدنيا، التي سخرت كثيرًا من العقول، فألهتها عن الآخرة، وأنستها مقام ربها، وأغراها المال الذي أنفقته فيما لا يستيقن نفعه.

ومن فَهْم هذه الآية تدرك أخي الحبيب أن هذه الدنيا، جُبلت على الأكدار والأوصاب والأنصاب، ولا تخلو من الشدائد، ولم يسلم من كدرها ونصبها أحد، حتى أنبياء الله ورسله، وصدق الشاعر:

جُبلت على كدر وأنت تريدها  **  صفوا من الآلام والأكدار

ومُكلِّف الأيام ضد طباعها  **  متطلب في الماء جذوة نار

ولكن موقف المؤمن من الدنيا عجيب، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير -وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن- إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له". رواه مسلم عن صهيب.