د. مسعود صبري
من القضايا التي لها حضور قوي في واقعنا اليوم، والتي تسبب خلافاً كبيراً بين الإخوة والأصدقاء؛ قضية كيفية سداد الدين مع تغير قيمة العملة، وبسبب الأزمات المالية المتعددة، وانهيار الاقتصاد في عدد من الدول النامية انهارت قيمة عملة الدولة، ففي الوقت الذي يرى فيه المدين أنه يجب عليه أن يسدد المبلغ الذي اقترضه، يرى الدائن أن قيمة هذا المبلغ قد تغيرت، وأنه إن قبل بسداد الدين فإنه ربما يخسر أكثر من 50%، وهنا يأتي التساؤل عن كيفية سداد الدين مع تغير العملة.
وسداد الدين يكون له حالتان:
الأولى: أن يكون الاقتراض بالعملة نفسها في البلد.
الثانية: أن يكون سداد الدين بعملة مغايرة وقت السداد، ويشترط في هذه الحالة السداد بالعملة نفسها، ولا يجوز الاشتراط بالرد بعملة مغايرة وقت الدين، وإنما يجوز وقت السداد.
وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة اتجاهات رئيسة، هي:
الأول: سداد القرض بالمثل:
وهذا يعني أن يسدد المدين ما عليه بالعملة نفسها ويسدد المبلغ نفسه دون زيادة أو مراعاة لتغير قيمة العملة.
هو مذهب أبي حنيفة والمالكية في المشهور عندهم، والشافعية والحنابلة، وعللوا ذلك أن الزيادة أو النقصان على المثل ربا لا يجوز(1).
يقول السيوطي: وقد تقرَّر أن القرْض الصَّحيح يُرد فيه المِثْل مطلقًا، فإذا اقترض منه رطلَ فلوس فالواجب ردُّ رطل من ذلك الجنس، سواء زادت قيمته أم نقُصت(2).
ومثل ذلك جاء في كلام ابن رشد في النَّوازِل، والحطَّاب على قول خليل، والكاسَاني في البَدائِع، والبُهُوتِي في كشَّاف القناع؛ وذلك لأن التغيُّر ليس ناشئًا من ذات النقد، بل من فتور رغبات الناس.
وقريب من هذا القول ما ذهب إليه د. علي السالوس، والشيخ مصطفى الزرقا، ود. وهبة الزحيلي، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، إلى أنه ينبغي أن يؤدى الدين بمثله لا بقيمته في حالة الغلاء والرخص، لا في حالة انقطاع العملة وعدم التعامل به، لأن النقود الورقية لها حكم النقود من الذهب والفضة، واستدلوا بحديث: «الذهب بالذهب والفضة بالفضلة مثلاً بمثل سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» (رواه الترمذي).
وممن قال به من المعاصرين المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وعللوا الحكم بأن العملة الورقية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين، فتجب فيه الزكاة يجري فيه الربا بنوعيه، لكن يلاحظ تغيب كثير من الأعضاء أو امتناعهم عن التوقيع.
وجاء في القرار رقم (42) (4/ 5) بشأن تغير قيمة العملة، قال مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 – 6 جمادى الأولى 1409هـ/ 10-15 ديسمبر 1988م:
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تغير قيمة العملة، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (21) (9/ 3) في الدورة الثالثة، بأن العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها:
قرر ما يلي:
العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما: هي بالمثل وليس بالقيمة؛ لأن الديون تُقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة، أياً كان مصدرها، بمستوى الأسعار(3).
الثاني: سداد الدين بالقيمة عند التغير:
وهو يعني أن ينظر قيمة الدين إما بالسلع الأساسية، أو يقيم بما يقابله من الذهب.
وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، فيرد الدين بقيمته إذا طرأ على العملة التغيير من غلاء أو رخص يوم ثبوت الدين في الذمة(4).
ورجَّحه متأخرو الحنفية، ورأي في المذهب الشافعي، وفي المذهب المالكي، وقوَّى ذلك ابن تيمية.
وعند أبي يوسف في عقد البيع تجب القيمة يوم انعقاده يوم البيع، وفي القرض تجب القيمة يوم القبض، وعند محمد بن الحسن تجب قيمته يوم الكساد، وهو يوم تغير العملة، وعللوا بأن رد المثل يؤدي إلى امتناع الناس عن إقراض الفلوس خشية قيمتها قبل الوفاء.
وممن قال بهذا من المعاصرين د. محمد عبداللطيف صالح الفرفور، ود. محمد سليمان الأشقر، وعلل بأن قياس الورق النقي على الذهب في إثبات حكم الربا فيهما قياس باطل، وأن الذهب فيه خصال ثلاث تجعله ثمناً خلقة كما قال الحنفية، وهي:
– أنه مقياس للقيم، أما الورق النقدي فلا يصلح مقياساً إلا في المبايعات الفورية.
– الذهب مخزن للقيم لثبات قوته، أما الورق النقدي فهو مخزن مهترئ القاع يتسرب مخزونه باستمرار.
– أن الذهب أداة للتبادل(5).
كما ذهب إلى هذا الرأي د. علي محيي الدين القره داغي، حيث قال: الرأي الذي يطمئن إليه القلب هو رعاية القيمة في نقودنا الورقية، في جميع الحقوق الآجلة المتعلقة بالذمة من قرض، أو مهر، أو بيع، أو إجارة، أو غيرها، ما دام قد حصل انهيار، وغبن فاحش، بين قيمة النقد الذي تم عليه الاتفاق، وقدرته الشرائية في الوقتين -أي: وقت العقد، ووقت الوفاء- وسواء كان المتضرر دائنًا أو مدينًا.
الثالث: التفريق بين التغير الفاحش والتغير اليسير:
فذهبت المالكية في قول آخر إلى أنه إذا كان تغير الفلوس يسيراً رد المقترض المثل، وإذا كان التغير فاحشاً رد القيمة؛ لتضرر المقرض بالتغير الفاحش دون اليسير(6).
وقال به بعض المالكية، وعند بعض الشافعية قريب منه.
وممن قال به من المعاصرين د. علي محيي الدين القره داغي(7).
أما عن كيفية تقييم الدين، فله معياران:
الأول: الاعتماد على السلع الأساسية، مثل: الحنطة، والشعير، واللحم، والأرز، بحيث نقوم المبلغ المطلوب من النقود الورقية عند إنشاء العقد: كم كان يشترى به من هذه السلع الأساسية؟ ثم نأتي عند الرد أو الوفاء، والالتزام إلى القدر الذي يشترى به الآن من هذه السلع، فحينئذ يتضح الفرق، وهذا ما يسمى بسلة السلع والبضائع، وهي معتبرة في كثير من الدول الغربية، يعرفون من خلالها التضخم ونسبته، ويعالجون على ضوئها آثار التضخم، ولا سيما في الرواتب والأجور.
الثاني: الاعتماد على الذهب، باعتباره في حالة نشأة العقد الموجب للنقود الورقية، وفي حالة القيام بالرد، وأداء هذا الالتزام، بحيث ننظر إلى المبلغ المذكور في العقد كم كان يشترى به من الذهب؟ فعند هبوط سعر النقد الورقي الحاد، أو ارتفاعه الحاد يلاحظ في الرد -وفي جميع الحقوق والالتزامات- قوته الشرائية بالنسبة للذهب، فمثلًا لو كان المبلغ المتفق عليه كان عشرة آلاف ريال، ويشترى به عشرون جرامًا من الذهب، فالواجب عند الرد والوفاء بالالتزام المبلغ الذي يشترى به هذا القدر من الذهب.
وعليه، فإن حلول سداد الدين مع تغير العملة يأخذ عدة أشكال:
الأول: الصلح بين الطرفين والاتفاق على مبلغ السداد.
الثاني: حساب قيمة الدين بالقيمة السوقية للسلع الأساسية.
الثالث: أن يقيم بما يقابله من الذهب وقت الدين.
الرابع: اللجوء إلى القضاء والتحاكم.
________________________
(1) تبيه الرقود على مسائل النقود لابن عابدين ضمن مجموعة الرسائل: (2/ 59)، والزرقاني على مختصر خليل، ج5/ 60.
(2) الحاوي للفتاوى، ج1، ص96.
(3) مجلة «المجمع» عدد 5، ج3، ص1609.
(4) بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود، للتمرتاشي، ص 79، بتحقيق: د. حسام عفانة.
(5) النقود وتقلب قيمة العملة، الأشقر، عدد 12 ضمن بحوث فقهية في قضايا اقتصادية معاصرة، ص290، دار النفائس.
(6) حاشية الرهوني، ج5/ 120.
(7) تذبذب قيمة النقود الورقية وأثره على الحقوق والالتزامات على ضوء قواعد الفقه الإسلامي، القره داغي، بحث منشور بمجلة المسلم المعاصر، ج2/ 9839.
المصدر: المجتمع