منى عبد الفتاح
للوهلة الأولى، يظن القارئ أن التفكك الأسري هو الطلاق فقط، وما يستتبعه من خراب البيت، ودمار الأسرة، وتشريد الأبناء، وانتقال الخلافات إلى ساحات وأروقة المحاكم.
لكن الواقع الجديد فرض علينا أشكالاً وصوراً غريبة من التفكك الأسري، تخالف ما تعارف عليه الناس، وتنطوي على أخطار جمة، كونها أنماطاً غير مألوفة، طالتها «الموضة» و«الحداثة» في أسوأ صورها ومظاهرها.
صور جديدة من التفكك داخل الأسرة الواحدة، فرضتها تطورات العصر، والتسارع التقني والتكنولوجي الهائل، منها أسر تدير شؤون حياتها عبر تطبيق «واتساب»، حيث لا يجتمع الأب المنهمك في عمله بأبنائه، الذين يسهرون ليلاً وهو نائم، وينامون نهاراً، بينما يستيقظ هو للذهاب إلى العمل، حتى باتت إشعارات التطبيق التكنولوجي الرابط بين أفراد الأسرة، الذين يجتمعون فقط في العالم الافتراضي، دون لقاء حقيقي تغمره المودة والألفة.
ومن مظاهر التفكك الأسري حديثاً، التي تسللت إلى بيوتنا عبر المسلسلات والأفلام الهابطة، نوم الزوج والزوجة في غرفتين منفصلتين، بدعوى الاستقلالية، وأن النوم المنفصل يؤدي إلى نوم أعمق وأكثر جودة، ويطيل عمر الحب والشوق بين الطرفين، وهي أكاذيب لم تجلب سوى المزيد من الخراب والتفكك للأسرة المسلمة.
وقد تطور الأمر حديثاً إلى محاولة إشاعة ما يعرف بـ«الإجازة الزوجية»؛ أي الابتعاد المؤقت بين الزوجين، بالاتفاق بينهما، بدعوى كونها خطوة لكسر الروتين وشحذ الطاقة وتجديد نار الحب! دون النظر إلى آثارها السلبية، وإمكانية فتح باب الخيانة الزوجية، أو أن يظن أحد الطرفين أن حياته أفضل، وأكثر راحة دون مسؤولية، فتكون نتيجة هذه الإجازة هي الانفصال والطلاق.
لكن الأخطر والأكثر اشمئزازاً، ما روّجته الثقافة الغربية ومنظمات حقوق المرأة، من مصطلحات دخيلة علينا، ومدمرة للأسرة، من نوعية «الاغتصاب الزوجي»، والدعوة إلى سن قوانين تبيح امتناع الزوجة عن زوجها، وهو ما نقل علاقة السكن والمودة والرحمة، وفق توصيفات القرآن الكريم، إلى ساحة الجدل والخلاف والقضاء.
وتتمدد صور التفكك الأسري فيما نشاهده عبر منصات مقاطع الفيديو، حيث تقع الزوجة وأطفالها أسيرة لهوس وإدمان مقاطع «تيك توك»، و«ريلز»، و«سناب شات».. وغيرها، وقد تصبح هي صانعة محتوى؛ فتصور حياتها، وتستغل أطفالها، وتكشف عن خصوصيات بيتها، فتضع الأسرة بأسرها في مهب الريح، عرضة للحسد والقال والقيل، وساحة للخلاف الزوجي، أو أن تتحول إلى طاولة قمار للربح المادي، فتفقد الأسرة حصانتها ومناعتها وتماسكها، أمام فتن وسائل التواصل.
ويطال الخطر أطفالنا، وقد وقعوا تحت أسْر «أزرار» تنقل لهم كل ما هو غريب ومثير وعنيف، وقد تنزلق بهم إلى مستنقع الفتن والشهوات، فيصبح الهاتف الذكي بديلاً عن الأب والأم، وتصير مواقع الإنترنت ووسائل التواصل المائدة التي يجتمع عليها الطفل كل يوم، بل كل ساعة، بديلاً عن الاجتماع الأسري لتناول الإفطار والغداء والعشاء معاً، مقارنة بما كانت عليه الحال في عهد الآباء والأجداد.
وتزداد التأثيرات السلبية مع تنامي الهوس بـ«فلاتر التجميل» التي تقلل من احترام الذات والثقة بالنفس، الأمر الذي يُشعر مدمني تلك الفلاتر بعدم الرضا عن حياتهم، ومن ثم التذمر منها، أو إطلاق حمى المقارنات بين هذا وذاك، فتضيق النفس، وتتولد المشاعر السلبية، وقد يشمئز الزوج أو الزوجة من شريك حياته، حينما يبحث عن معايير الجمال المصطنعة التي أتاحتها الفلاتر، ويتورط في علاقة افتراضية، أو خيانة إلكترونية، أو يقع في براثن عصابات النصب والاحتيال.
نحو 32% من الفتيات المراهقات أقررن بأنه عندما شعرن بالسوء تجاه أجسادهن، فإن «إنستجرام» كان السبب، في تأكيد على الآثار الضارة لتلك التطبيقات على النساء، وفق دراسة نشرت نتائجها صحيفة «وول ستريت جورنال».
ويبدو التفكك الأسري في صور أخرى تختلف من مجتمع إلى الآخر، بين زوج يقضي معظم وقته على المقهى، وزوجة تضيق وقتها في الثرثرة مع صديقاتها، فضلاً عن الإفراط في متابعة التلفاز ووسائل التواصل، فيضيع الوقت، وتختل المسؤوليات الأسرية، وبالتالي يقع الخلاف، ويحدث الشجار، وربما تبادل العنف اللفظي والبدني، انتهاء بالانفصال والطلاق.
ومن أخطر صور التفكك في بعض المجتمعات العربية، التخلي عن واجبات الأمومة والأبوة لصالح العمالة المنزلية الذين يتولون مهام الطهي والنظافة وقيادة السيارات، واصطحاب الأبناء إلى المدارس، ومتابعة تحصيلهم الدراسي، والعناية بهم والسهر على صحتهم، واللهو معهم؛ ما تسبب في تفكك أسري مكتوم وراء علاقة زواج مستمرة بالفعل، لكن طرفيها لا يقومان بواجباتهما تجاه أبنائهما على أكمل وجه.
إن صور التفكك الأسري الحديثة، التي غزت أسرنا ومجتمعاتنا، لهي خطيرة الآثار والنتائج، خاصة عند النظر إلى ارتفاع معدلات الطلاق في عالمنا العربي، وهو ما يستوجب تطوير الخطاب والآليات والأدوات لتحقيق المزيد من اللحمة الأسرية، وتثبيت أركان الاستقرار التي تواجه ريحاً عاتية من مظاهر التفكك المبتدعة في القرن الحادي والعشرين.
المصدر: المجتمع