د. سليمان صالح
إنه من المعلوم لدينا نحن المسلمين أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأن الآخرة هي دار الجزاء والقرار، ومن رحمة ربنا جل وعلا بعباده أنه بيَّن لنا أن الابتلاء في دار الدنيا سُنة من سننه، يمحص بها عباده ويشهدهم على أنفسهم، ومن رحمة الله بنا أيضاً أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، فيبتلي كل عبد بقدر البلاء الذي يتحمله، كل على قدر إيمانه.
معاني البلاء في القرآن الكريم
وقد جاءت مادة البلاء لغة «بلو» أو «بلوي» في القرآن الكريم بكل اشتقاقاتها اللغوية كافية وشافية، حتى لقد حوت جميع معانيها، التي تدور بالأساس حول الاختبار والامتحان إما بالنقمة، أو بالنعمة نزولاً ومنعاً، أو عطاء واستدراجاً، قال تعالى: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الأعراف: 168)، وقال: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ (الأنبياء: 35)، قال ابن عباس: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة، وإلينا تردّون فتجازون بأعمالكم، حسنها وسيئها؛ أو بمعنى التكليف، فالتكاليف فيها مشقة وتعب، وفيها معنى الاختبار بالمنحة والمحنة، فالتكليف ابتلاء من هذين الوجهين.
ومن أبرز وأشمل أمثلة الابتلاء بالمنع قول الله عز وجل: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155).
ومن أمثلة الابتلاء بالعطاء قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (المائدة: 94).
ومن أمثلة العطاء استدراجاً قوله عز وجل: ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُۥ زِينَةً وَأَمْوَٰلًا فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰٓ أَمْوَٰلِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَلِيمَ﴾ (يونس: 88).
ويبتلي الله الناس فيما آتاهم من خير أو شر ليشهدهم على أنفسهم أيهم أحسن عملاً، قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (هود: 7)، وقال حكاية عن سليمان عليه السلام: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل: 40).
لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها
وكلما كان المؤمن أقوى إيمانًا، ازداد الابتلاء والامتحان؛ يروي أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يُوعَك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حرَّهُ بين يدي، فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدَّها عليك، قال: «إنَّا كذلك، يُضعفُ لنا البلاء، ويُضعفُ لنا الأجر»، قلتُ: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياء»، قلتُ: يا رسول الله، ثمَّ مَن؟ قال: «ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليُبتلى بالفقر، حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحوبها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء» (أخرجه ابن ماجه).
وكلما ازداد البلاء عظم الأجر والثواب لمن نجح في الاختبار؛ وعظم الجزاء والعقاب لمن رسب، كما في الحديث الشريف: «إن عِظَمَ الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضيَ فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (أخرجه الترمذي).
أسباب نزول البلاء
لماذا يبتلي الله عباده، ويضعهم في مواضع الفتن والامتحانات؟ وما حاجة ربنا لذلك من عباده؟ أليس هو أرحم بعباده من الوالدة بوليدها؟! ثم أليس هو العليم بضعفهم؟! فلماذا إذن يبتليهم؟!
وإن من أجمع ما يجيب عن مثل هذه التساؤلات، كلام الراغب الأصفهاني رحمه الله: «إذا قيل: ابتلى فلان كذا وأبلاه، فذلك يتضمن أمرين؛ أحدهما: تعرف حاله، والوقوف على ما يُجْهَلُ من أمره، والثاني: ظهور جودته ورداءته، وربما قُصِد به الأمران، أو أحدهما، فإذا كان البلاء من علام الغيوب، فليس المراد منه إلا ظهور جودته ورداءته» انتهى بتصرف.
وأولًا فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولا يبتلي أحداً بما يعجزه، وثانيًا فالابتلاء إما أن يكون خيرًا عظيمًا، وذلك لمن أقام نفسه في المقام الذي يرضي الله عنه، فظهرت جودة معدنه، وأرى الله من نفسه خيرا، ولا شك أن هؤلاء يخرجون من دنياهم وفي صحائفهم أعظم الأجور، وأخف الأوزار أو لا ذنب عليهم؛ وهذا أيضا من عظيم لطف الله بهم ومنّتَه عليهم.
وقد يكون الابتلاء شرًا عميمًا يخسر المبتلى فيه دنياه وآخرته؛ وهذا لمن ضل الطريق، فأنزل نفسه في مقام يكرهه الله ورسوله عند ابتلائه، وحينها تظهر رداءة معدنه وسوء خبيئته، فيبيع آخرته بدنياه، أو ربما بدنيا غيره، فهؤلاء يخرجون من الدنيا وقد كسبوا فوق أوزارهم أوزارًا، واستدرجوا إلى ما يرديهم استدراجًا؛ وفي أقوال السلف ما ينفع الله به من أراد الانتفاع؛ فقد ذكروا أن من أسباب نزول البلاء المعاصي، ومن أسباب رفعه التوبة.
يقول ابن القيم رحمه الله: “قد جعل الله سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضًا لسهام البلاء؛ ليُعلِّم عباده وأولياءه أن المتعلق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع”، وقال مفسرا قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)، بأن دلالة لفظها أن الله لا يغيِّر نِعَمَه التي أنعم بها على عباده حتى يُغيروا طاعته بمعصيته؛ واستدل على ذلك بقوله عز وحل: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الأنفال: 53)، قال رحمه الله: وإشارتها أنه إذا عاقب قومًا وابتلاهم، لم يغير ما بهم من العقوبة والبلاء، حتى يغيروا ما بأنفسهم من المعصية إلى الطاعة؛ كما قال العباس عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة”؛ فالبلاء بالنهاية اختبارٌ لمعدن الإنسان، وإشهادٌ له على نفسه.
وقد ذكر الإمام القرطبي رحمه الله أن العصمة من البلاء في أربع هي: عدل الإمام، وهدي العلماء، والأمر بالمعروف والنهَي عن المنكر، وتستر النساء.
موقف المؤمن عند نزول البلاء؟ أو ما المقام المتعين على المبتلى عند وقوع البلاء؟
وللإجابة على ذلك نقول وبالله التوفيق:
إنه يجب على العبد ابتداء أن يأخذ بأسباب العصمة من البلاء حتى لا ينزل به، وفيما ذكر من أقوال العلماء سابقًا، وفي غيره ما يغني عن التكرار، فإن بذل العبد جهده في الأخذ بما يستطيع منها ثم نزل البلاء بعد ذلك، فإنه يتوجب عليه أولًا أن يعمل على دفع هذا البلاء إن كان من نوع ما يندفع، فهذا “مقام الدفع” أول مقام يرضي به العبد ربه، وينبغي للعبد أن يقيم نفسه في هذا ما وسعه المقام، وأن يتخذ كافة الأسباب المتاحة لدفع هذا البلاء، فإن اندفع فقد وفَى بعهده، وأرضى ربه، ونال أجره، وإن لم يندفع بعد أن استوفى كل جهده في دفعه، فإنه ينتقل إلى المقام الثاني وهو “منزلة الصبر الجميل”، فإنه يقيم في نفسه في هذا المقام بلا يأس و لا شكوى، وهو مع مقامه هذا يفكر، ويبتكر، ويجتهد في دفع البلاء عن نفسه، أو عن ذويه، أو عن بني وطنه، ولا ينبغي له أن يتوقف ما وسعه الفكر والعمل، وذلك لأن الصبر هنا منزلة، وليس مقامًا؛ وبين المقام والمنزلة بون شاسع يفطن إليه أولوا العزم وأصحاب البصائر من العباد.
فمثلًا: ينبغي للعبد أن يأخذ ابتداء بأسباب عدم الإصابة بالأمراض، وخصوصا المعدية منها، ولكن إذا أصيب العبد بالمرض مع ذلك وجب عليه أولا الأخذ بأسباب الشفاء، والتداوي بما يدفع عنه المرض من أنواع التداوي والعلاج، وأن لا ييأس ما دام المرض من نوع ما له علاج معروف في الطب النبوي، أو الطب الحديث، أو الطب البديل، وأن يقيم نفسه على التداوي ما وسعته الإقامة، طالبا الأجر والرضى من رب العالمين، فإن قصر في هذا وهو قادر عليه كان آثمًا؛ فإن كان المرض من نوع ما لا يرجى برؤه، أو لم يندفع مرضه بعد أخذه بجميع أسباب التداوي والعلاج، فإنه يلزمه الانتقال لمنزلة الصبر الجميل، مع السعي الدائم، والعمل الدؤوب وسؤال أهل العلم والخبرة، حتى يدفع البلاء جزئيًا “بالتعايش المريح مع المرض”، أو كليًا “بالشفاء التام بإذن الله”، ولا ينبغي هنا إهمال أثر الأعمال الصالحة والعبادات والصدقات في دفع أنواع البلايا التي لا تندفع إلا بإذن الله العلي القدير.
ومن أرض الواقع نسقط الأمر على ما يحصل مع إخواننا في غزة العزة، فقد نزل بهم بلاء الاحتلال بمساعدة القوى العالمية منذ عام 1948م وحتى الآن، فلم يستسلموا ولكن أقاموا أنفسهم بمقام الدفع بما هو مستطاع، فتدرجت أساليب المقاومة من الحجارة إلى الأسلحة البيضاء إلى الزجاجات الحارقة، ومن المظاهرات إلى العصيان المدني، ثم طورت حركات المقاومة أسلحة، وصواريخ تمكنت من الوصول إلى مدن وبلدات إسرائيلية، ثم برزت عمليات الطعن، والدهس ردا على المعاملة الوحشية لأهل فلسطين من قبل جنود الاحتلال، مرورا بالحصار الظالم، والحروب المتتالية على غزة وانتهاء بمعركة “طوفان الأقصى”، فانظر كيف أقاموا أنفسهم في مقام الدفع حتى أصبحوا بفضل الله قادرين على ما نرى الصمود، ونزلوا أحيانا بمنزلة الصبر وقت الحصار، أو الإعداد للدفع بأساليب أكثر ردعا للعدو المحتل، لكنهم أبدا لم يتوقفوا عن دفع بلاء الاحتلال، ونسأل الله أن يثبتهم ويكتب لهم نصرًا عزيزًا مؤزرًا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، آمين آمين آمين….
معادن العباد تظهر عند نزول البلاء:
وخلاصة مقامات العباد عند نزول البلاء بإيجاز أرجو ألا يكون مخلًا، خمسة مقامات أو منازل:
أولها الجحود ونعوذ بالله من ذلك، و منه ما هو جحود باللسان، وجحود بالأركان، وجحود بالجنان، وأشده ما كان بهم جميعا.
وثانيها الصبر وهو عدم الجحود مع وجود الإحساس بمرارة الابتلاء.
وثالثها الرضا وهو صبر لا مرارة فيه ولا شكوى، فيرضي الله العبد بقضائه، وينزع عنه الاحساس بمرارة المصيبة، فيطمئن قلبه إلى قدر الله، ويسلم له أمره.
ورابعها الشكر عند نزول البلاء، والشكر هنا ليس على ذات المصيبة، وإنما هو شكر لأنها لم تكن أعظم من ذلك، ولأنها لم تكن في دينه، ولأن الله أرضاه بقدره، فنال بذلك الثواب والرضا من ربه ومولاه، فيشكر ربه الذي وهبه تلك النعم الكامنة داخل المحن.
وهذه المقامات الأربعة فيما لا طاقة للعبد بدفعه كالموت، وأما ما يندفع بالسعي والتدبير والمجاهدة والجهاد، فإن أعلى وأعظم وأوجب المقامات فيه المقام الخامس “مقام الدفع”.