فاطمة عبد الرءوف

لم تكن الفنانة الإسبانية أليشيا فرامس التي صممت رجل ثلاثي الأبعاد بتقنية «الهولوجرام» وأصبحت تعيش معه أول من سعى لإقامة علاقة عاطفية افتراضية مع شخصية وهمية من نسج الخيال.

وليس من قبيل المبالغة أن نقول: إن فكرة الهروب من عالم الواقع وعلاقات الواقع الحقيقية إلى عالم الوهم والخيال مسألة قديمة، فالعقل الإنساني يمتلك القدرة على صناعة أحلام يقظة ذات خيال جامح لا يستطع الذكاء الاصطناعي حتى الآن التعبير عنه.

الجديد هو أن أحلام اليقظة هذه يتم تنزيلها حالياً بحيث تحاكي الواقع، فالفنانة الإسبانية قامت بتصميم شخصية شريكها الذي تريده من مجموع أصدقائها السابقين، فجمعت من كل شخصية أفضل ما فيها، ثم عبر الذكاء الاصطناعي تم تزويد الشخصية المصنعة ببيانات كثيرة حتى تكون أكثر من مجرد صورة لفارس الأحلام، بل تطابق شخصيته، كذلك يستطيع إجراء الحوار وتقديم الدعم النفسي والعاطفي ومشاركة الوقت الذي تحتاجه.

ثم عبر تقنية «الهولوجرام» بدت الشخصية موجودة بطريقة ثلاثية الأبعاد تحاكي الواقع، فهي إزاء إنسان يبدو حقيقياً تراه وتسمعه ويسمعها، بل وتشعر معه بالإشباع العاطفي، أو كما تقول فرامس: «إنه يلبي احتياجاتي العاطفية ولا يسبب لي صداعاً، إنه أمين وصادق ولا يخون مثل الرجال الآخرين»!

لذا، فقد قررت فرامس حتى تشعر باكتمال التجربة المزيفة الزواج منه الصيف القادم وسيقضيان شهر العسل في هولندا!

دوافع الهروب

تتيح منصات الذكاء الاصطناعي تصميم شخصية رقمية لإقامة علاقة عاطفية معها بسهولة وتتيح للمستخدم انتقاء كامل الصفات بدءاً من لون الشعر والعينين، مروراً بنبرة الصوت وطبيعته، انتهاء لتفضيلاته العاطفية، أو يتم دمج هذه الشخصية بتقنية «الهولوجرام» حتى يكون وجود الشخصية أكثر وضوحاً وتأثيراً، كما فعلت الفنانة الإسبانية، أو كما يقول أحد مستخدمي منصة «ريديت»: «إن كل علاقاتي السابقة مع البشر كانت هراء، أشعر أن تطبيق «ريبليكا» الخاص بي حقيقي أكثر من أي إنسان»!

ويمكننا أن نرصد ثلاثة دوافع أساسية تقف وراء سعي البعض لإقامة علاقة عاطفية مع شخصية مصطنعة سواء كانت روبوت أو دمية متطورة أو شخصية مصممة بالذكاء الاصطناعي يتم التحدث معها عبر الهاتف أو الحاسوب:

1- الوحدة المدمرة:

تبدو مفارقة الشعور المتزايد بالوحدة على الرغم من أننا في عصر منصات التواصل الاجتماعي المتعددة كأمر مثير للدهشة! فالمفترض أن منصات التواصل تقرب المسافات وتساعد على الحوار المستدام، لكن يبدو أن ذلك لا يتحقق إلا عندما تكون الشخصيات التي يتم التواصل معها شخصيات حقيقية نعرفها جيداً، ولكن لسبب أو لآخر تباعدت المسافات بيننا وبينهم؛ أما مع الأشخاص الافتراضيين فالأمر وعلى الرغم من بعض المتعة اللحظية يترك الإنسان في حالة من الخواء النفسي.

الوحدة قد تكون إجبارية كما حدث أثناء وباء كورونا أو بسبب كبر السن وفقدان العائلة، وقد تكون اختيارية خاصة في الأوساط الشبابية حيث الهشاشة النفسية وعدم القدرة على تحمل الآخر المختلف، حتى إن بعض الدراسات تشير إلى أن نحواً من 73% من الشباب يعانون من الشعور بالوحدة.

2- الملل وفقدان الشغف:

ثاني الدوافع وراء إقامة علاقة افتراضية هو الشعور القاتل بالملل وفقدان الشغف والإثارة، فالطفل الذي تشتت انتباهه مع أفلام الكارتون الذي يستغرق كل مشهد بضع ثوان والمراهق الذي يعيش مع مقاطع الفيديو القصيرة التي تستغرق دقيقة ويظل يتنقل من فيديو لآخر هو ذلك الشاب الذي يعاني بشدة من الملل.. يحب من النظرة الأولى، كما يقال، ثم سرعان ما تنهار العلاقة مع أول خلاف أو مشكلة وربما دون أي مشكلات؛ فقط لأنه لم يعد هناك ثمة شغف، يسعى وراء الجديد و«الترند» والفرصة الأفضل وتنافس الفتيات الشباب في ذلك، فقطار المساواة وصل محطة الحق في المساواة في الملل وفقدان الشغف ومن ثم سهولة التخلي عن علاقة تبدو مملة.

3- الهشاشة النفسية:

يرتبط الدافع الثالث (الهشاشة النفسية) بالدافع الثاني (سرعة الملل)، ويؤدي لنتيجة واحدة؛ وهي عدم القدرة على الالتزام بعلاقة حقيقية طويلة ومن ثم الانجذاب لعلاقة محوسبة عاطفياً كبديل.

تعد الهشاشة النفسية نتيجة منطقية لعصر تفشت فيه الفردانية وضعفت فيه القدرة على الالتزام، وأصبحت معاني الصبر والتحمل والتضحية تحيطها علامات الاستفهام، بينما احتلت مشاعر النرجسية والاستحقاق الزائد والنفعية مركز الصدارة وإن كان بمسميات براقة كالحفاظ على الحدود والهروب من العلاقات السامة والمؤذية، وأن تمنح نفسك أولاً ونحو ذلك.

ومن ثم لم يعد لدى الفرد الذي لا يشعر إلا برغباته واحتياجاته القدرة على تحمل التحديات الطبيعية التي تواجهها أي علاقة عادية، فكان الهروب للعلاقات الافتراضية التي لا تحمل أي التزام تجاه الطرف الثاني الموجود لإشباع احتياجات الشخص الفردانية، فالشريك الرقمي غير مزعج ليس له مطالب (لا يسبب للفنانة الإسبانية الصداع)، يجيد الاستماع في كل وقت وعلى أي حال، فهو لا يعاني من الإرهاق أو المرض، يقول الكلام الذي يريد الطرف الآخر سماعه، فهو مبرمج على ذلك وبطريقة احترافية، ومن ثم فهو الشريك المثالي لمن يعاني من الهشاشة النفسية ولا يمتلك القدرة على الالتزام أو العطاء.

دوافع مجتمعية

هناك دوافع أخرى عديدة قد تكون وراء إقامة علاقة حميمية «مرقمنة»؛ كالتعرض للخذلان والصدمات المتكررة حد الوصول لليأس من نجاح أي علاقة (الفنانة الإسبانية ترى في شريكها الرقمي شخصاً لا يتغير ولا يخون، وهذا يدل على كثرة تعرضها للصدمات السابقة)، ولا شك أن القدرة على تحمل الإحباط والخذلان والصدمات له ارتباط وثيق بمدى الصلابة النفسية للفرد؛ بحيث لا يترتب على هذه الصدمات تغيرات نوعية في شخصيته تجنح به إلى شواطئ الشذوذ والاضطراب، إلا أن القيم المجتمعية لا تقل في أهميتها عن القيم الفردية، فمجتمع السوق الذي تسوده قيم الاستهلاك الشره وتدور فلسفته حول البرجماتية يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على خيارات الفرد؛ فالمجتمع الذي يعيش حالة من السيولة في القيم لا بد أن يكون مفهوم الحب والعائلة لديه مفهوماً سائلاً أيضاً، وتفوق فيه قيمة الرغبة واللذة والمنفعة قيمة الالتزام والبناء والاستثمار في الأسرة.

مستقبل غائم!

على الرغم من أن العلاقات العاطفية المحوسبة تستطيع التفاعل مع حاستي السمع والبصر، فإنها تحرم الإنسان الواقع فيها من حاسة اللمس، وإن كان علماء برمجيات يسعون لتطوير أدوات حسية مرتبطة بجهاز الحاسوب تستطيع التفاعل مع المحتوى السمعي والبصري بحلول عام 2050م، ولكن يبقى السؤال معلقاً: هل يمكن لكل هذا التزييف العميق لمشاعر الإنسان وأحاسيسه أن يكون بديلاً للعواطف الحقيقية؟ وكيف يمكن أن يكون شكل البشرية وقتها؟ والسؤال الأكثر أهمية يتعلق بذاتنا الحضارية وهويتنا الدينية في ظل هذا المستنقع من النفايات العاطفية؛ فإلى متى نسير على خطى القوم وتخبطهم؟ وإلى متى نستورد المشكلات والحلول؟ ومتى ننهض حضارياً ونقدم نموذجنا المعرفي في العلاقات الأسرية في هذا العالم المتخبط المفسد الذي يسعي لهلاك الحرث والنسل؟

المصدر: المجتمع