بقلم: د. جابر قميحة
د. جابر قميحة |
من الحقائق المسلم بها أن قائد الأمة- أية أمة- يجب أن يكون مثلاً أعلى لشعبه؛ حتى يستطيع أن يؤدي مهامه بنجاح يعود بالنفع على من يقودهم، ويحقق لهم النهوض والتقدم، كما يجب أن يختار الحلول المناسبة لما يعترض طريقه من عقبات أو مشكلات.
وقد قال "جورج سباين": "حتى تستطيع أن تعرف الأمة، حاول أن تعرف قائدها وملامحه السياسية والعقلية، وستجد عشرات من الأمم سقطت في الحضيض بسبب حكامها، وبالعكس هناك من الأمم من حققت الانتصارات والنهضات والتقدم على أيدي قادتها البارعين".
وقريب من هذا ما كتبه العقاد في عبقرية محمد: "... عندما تنعقد المقارنة بين المعارك القديمة والمعارك العصرية؛ ينبغي أن ننظر إلى فكرة القائد قبل أن ننظر إلى ظواهر المعارك، أو لأي أشكالها وأحجامها؛ لأننا إذا نظرنا إلى الظاهر فلا معنى إذًا للمقارنة على الإطلاق، إذ من المقطوع به أن عشرة ملايين يجتمعون في ميدان واحد أضخم من عشرة آلاف، وأن حربًا تذاع بالمذياع والتليفون أعجب من حرب تُدار بالفن والإشارة.... لكننا إذا نظرنا إلى فكرة القائد أمكننا أن نعرف كيف أن توجيه ألف رجل قد تدل على براعة في القيادة لا نراها في توجيه مليون... بينهم الراجل والراكب، ومنهم من يركبون كل ما يركب من مخلوقات حية وآلات مخترعة... وهذه الفكرة هي التي ترينا محمدًا عليه السلام قائدًا حربيًّا بين أهل زمانه بغير نظير في رأيه، وفي الإقناع بمشورة صحبه... وهذه القدرة هي شهادة كبرى للرسول تأتي من طريق الشهادة للقائد الخبير بفنون القتال.
فمن كانت عنده هذه الأداة النافذة، فاقتصر بها على الدفاع، واكتفى منها بالضروري الذي لا محيص عنه، فذلك هو الرسول الذي تغلب فيه الرسالة على القيادة العسكرية، ولا يلجأ إلى هذه القيادة إلا حين توجبها رسالة الهداية.
ويزيد هذه الشهادة عظمًا أن الرجل الذي يجتنب القتال في غير ضرورة رجلٌ شجاعٌ غير هياب... شجاع وليس كبعض الهداة المصلحين الذين تجور فيهم فضيلة الطيبة على فضيلة الشجاعة، فيحجمون عن القتال؛ لأنهم ليسوا بأهل قتال".
وإذا نظرنا إلى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم رأيناه- كما ينقل التاريخ- أعلم الناس بطبائع الرجال، ومواقفه كلها تتسم بالإنسانية التي لا تعرف التهاون، وبالحسم الذي لا يعرف الظلم، وبالعدل الذي يضع كل إنسان في موقعه المناسب، وقد يحتاج الموقف لينًا لو استبدل به شدة لفسد كل شيء، وقد يحتاج الموقف شدة لو حلّ محلها لين لأضار ذلك بالدين والقيم، واختلاف التصرف باختلاف المواقف والرجال لا يتعارض مع القواعد العامة، والقيم العليا، إذا ما صدر ذلك عن نفس بصيرة موصولة بالله، وهل كان هناك من هو أنقى وأطهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فمن عبقريته القيادية أنه كان يعطي الموقف والشخصية أنسب ما يصلح لها في مجالها، من ذلك موقفه من الأقرع بن حابس الذي استدعاه الرسول ليوليه مال قبيلته تميم، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل أحد سبطيه استهجن ذلك، وقال: ما هذا يا رسول الله إن لي من الأبناء عشرة إذا رأوني تركوا لي الطريق خوفًا مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلي لنا أمرًا، من لا يرحم لا يُرحم".
وبذلك وضع قاعدة مهمة، وهي أن من يتولى أمرًا قياديًّا، أو مسئولية عامة عليه أن يكون رحيمًا، بالمفهوم الشامل للرحمة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، فقد عفا عن أهل مكة يوم فتحها، وقال كلمته الخالدة "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
بينما وجدنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف القوة والحسم في تصرفه مع مسيلمة الكذاب، فقد جاء في كتب السيرة أنه في العام التاسع من الهجرة جاء "مسيلمة" هذا مع وفد بني حنيفة إلى المدينة، وقادته وقاحته وسوء أدبه إلى أن يردِّد أمام المسلمين قوله (لو جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته), ونقل بعض المسلمين للنبي ما يردده مسيلمة، فأشار النبي بيده إلى قطعة من جريد النخل, وقال "اسمع يا مسيلمة: والله لو سألتني هذه القطعة من جريد ما أعطيتكها، ولن أتعدى أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله".
وأمام هذه المواجهة الصريحة لم ينطق "مسيلمة" بكلمة، وعاد مع قومه بني حنيفة إلى بلادهم.. اليمامة وما حولها، وكانوا من أمنع الناس وأقواهم وأغناهم، وأكثرهم خيلاً ورجالاً، وسلاحًا، وزراعة، وأعلن "مسيلمة" على رءوس الأشهاد من قومه أنه "نبي مرسل" وأن الوحي بدأ في النزول عليه.
ويروى ابن هشام في السيرة النبوية أنه أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا نصه:
"من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: سلام عليك، أما بعد: فإني قد أُشرِكْتُ في الأمر معك، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون".
ورد عليه محمد صلى الله عليه وسلم بكتاب نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين".
وبالنظر في سلوك "مسيلمة" وهو في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالنظر كذلك في كتابه إليه تواجهنا "شخصية منحرفة", تحكمها "عقدة التعاظم" التي تفهم النبوة والرسالة على أنهما ملك وسلطان, وسيادة وهيمنة على الأرض، وفي سبيل ذلك تكون التضحية بالأخلاقيات النبيلة والقيم العليا أمرًا لا غبار عليه.
بينما نرى في مواجهة الرسول عليه السلام لمسيلمة وهو في المدينة, ومواجهته له بعد ذلك في رده المكتوب إليه عدة معانٍ وقيم عليا أهمها اثنتان:
الأولى: الصراحة في الحق, ومواجهة المنحرفين والطامعين، والجبارين، دون مواربة أو مصانعة، أو تفريط في دين الله.
الثانية: تجنب اللجاج والجدل، وخصوصًا إذا تعلَّق الأمر بقضايا أو حقائق جوهرية واضحة لا تحتمل النقاش؛ مثل سمو النبوة والرسالة, وما هيأه الله للإنسان في الكون، وجزاء التقوى، وجزاء الكفران والطغيان والجحود.
وينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى, وتتحول الردة العقدية إلى جيوش وسلاح، وينهض أبو بكر (رضي الله عنه) بالأمر، وينطلق خالد بن الوليد إلى مسيلمة، وتدور معارك من أشرس وأدمى ما عرف التاريخ, وينهزم بنو حنيفة, ويصرع مسيلمة، وترتفع راية الإسلام من جديد, وتصدق في مسيلمة كلمة الرسول عليه السلام: "ولئن أدبرت ليعقرنك الله".
ولا عجب فيما يسلكه النبي صلى الله عليه وسلم من الحلول المناسبة؛ فهو القائل عن نفسه "أدبني ربي فأحسن تأديبي"، والتأديب صفة جامعة تتسع لكل القيم الإنسانية.
*****
ويهمنا في هذا السياق أن نقف أمام محمد القائد في غزوة بدر؛ لنرى الفروق الجوهرية بينه وبين شخصية قائد المعسكر الكافر (أبي جهل الحكم بن هشام)، يقول المقريزي: "وفي صباح الثلاثاء السابع عشر من شهر رمضان كانت غزوة بدر وهي الوقعة العظيمة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، وأعد الإسلام، ودمغ الكفر وأهله، وجمعت الآيات الكثيرة والبراهين الشهيرة بتحقيق الله ما وعدهم إحدى الطائفتين، ومجيء المطر عند الالتقاء، وكان للمسلمين نعمة وقوة، وعلى الكفار بلاء ونقمة، وإمداد الله المؤمنين بجند من السماء".
وعاش الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوب جنوده إذ سمعوه يدعو الله لهم "اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك، اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيَلائِها وفخرها تحادك، وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحِنْـهم- أهلكهم- الغداة".
وكان متواضعًا، لا يفضل نفسه على المسلمين في شيء؛ عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه)، قال: كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير، فكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكانت إذا جاءت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالا: نحن نمشي عنك، قال: "ما أنتما بأقوى مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما".
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير الناس، فكان مما قاله المقداد بن عمرو (يا رسول الله امض بأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون...).
وعن الأنصار قال سعد بن معاذ: (... إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق، فأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يا نبي الله لما أردت، فالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل، وصل من شئت، واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت...).
وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم كذلك برأي الحباب بن المنذر الذي قال: (انطلق بنا إلى أدنى ماء إلى القوم... فبها قليب عذب الماء كثيره، ثم نبني عليه حوضًا فنقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل، ونعوِّر (أي نكسو بالتراب) ما سواها من القلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم): "يا حباب أشرت بالرأي" ونفذ ما رأى.
فنحن أمام قائد يأخذ نفسه بالعدل والشورى، ويُمَكن جنوده من إبداء ما يرون... إنها شورى حقيقية وليست شورى زائفة أو نظرية.
ونرى القائد العظيم وهو في عريشته يرفع يديه إلى السماء ويدعو ربه في خشوع "اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تُعبد في الأرض اللهم نصرك الذي وعدتني...".
*****
تلك كانت أهم ملامح القائد النبيل، فلننظر الآن إلى قيادة من نوع آخر تتمثل في أبي جهل، الذي كان مصرًّا على القتال، مع أن بعض عقلاء قومه نصحوه بالرجوع إذ لا داعي للقتال بعد أن أفلتت العير (قافلة التجارة) من يد محمد وأصحابه؛ فزجرهم، وتحداهم، وسخر منهم.
فرفض نصيحة عتبة بن ربيعة بالرجوع إذ لا مبرر للقتال، وخطب عتبة في قريش قائلاً: (يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون شيئًا بأن تلقوا محمدًا وأصحابه، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه، أو ابن خاله، أو رجلاً من عشيرته، فارجعوا، وخلوا بين محمد وسائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعـرضُوا منه ما تريدون).
وأرسل إليه أبو سفيان ومن خرج معه للقتال (إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم قد نجاها الله فارجعوا).
وأحدث إصراره الأحمق على القتال شرخا في جيشه، فقد انسحب بنو زهرة، فلم يشتركوا في القتال؛ استجابة لتوجيه الأخنس بن شريق، وكان منطقه هو منطق أبي سفيان: (لقد نجَّى الله أموالكم... فلا تسمعوا لأبي جهل).
*****
لم يفتح أبو جهل صدره لهذه الأصوات، وجاء رده في قوله بلهجة استعلاء وغرور (لا والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم عليه ثلاثًا، فننحر الجُزر (الجمال)، ونطعم الطعام، ونُسْقِي الخمر، وتعزف علينا القيان (الجواري)، فما يزال العرب يسمعون بنا، وبمسيرنا، وبجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبد الدهر بعدها، فامضوا) ثم قال وهو يتفجر غرورا:
ما تنقم الحربُ العوانُ مني بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
كان أبو جهل مثالاً للقائد المغرور، الذي لا يحسن تقدير المواقف، وكان مستبدًا برأيه، ولم يفتح أذنيه للرأي الآخر، فنزل المعركة وبينه وبين جنوده جدار من عدم الارتياح وفقد الثقة؛ أي فاصل نفسي سميك، وكان قائدًا أحمق لا يعتبر الحرب إلا نوعًا من الاستعلاء، والمظهرية الدعائية.
ونتيجة بدر معروفة، فكان مصرع أبي جهل على يد غلامين؛ هما معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ بن عفراء، وبقية النتائج تتلخص فيما يأتي:
1- اسَتشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً.
2- غنم المسلمون غنائم كثيرة.
3- قُتِلَ من المشركين سبعون، وأسِرَ منهم سبعون.
4- بعد النصر عرف المشركون وكل العرب وأهل الأديان الأخرى أن المسلمين أصبحوا قوة كبرى مهيبة الجناح.
فبالقيادة الرشيدة انتصر المسلمون، وبالقيادة الغبية الحمقاء انكسر المشركون انكسارًا شديدًا، وهزموا هزيمة نكراء، وصدق الله تعالى إذ قال: ﴿وَلَقدْ نَصَرَكُمْ الله ببَدْرٍ وأنتُمْ أذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)﴾ (آل عمران).