بقلم: د. علي محمد الصلابي

تَذْكُرُ كتب السِّيرة: أنَّ اتِّخاذ دار الأرقم مَقَراً لقيادة الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان بعد المواجهة الأولى الَّتي برز فيها سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه. قال ابن إسحاق: «وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  إذا صلُّوا؛ ذهبوا في الشِّعاب، فاستخفَوا بصلاتهم من قومهم، فبينما سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه في نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  في شِعْبٍ من شِعاب مكَّة؛ إذ ظهر عليه نفرٌ من المشركين؛ وهم يصلُّون، فناكَرُوهم. وعابوا عليهم ما يصنعون حتَّى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بِلَحي([1]) بعيرٍ، فشجَّه فكان أوَّل دمٍ أُريق في الإسلام» [ابن هشام (1/281 ـ 282)] .

أصبحت دار الأرقم مركزاً جديداً للدَّعوة يتجمَّع فيه المسلمون، ويتلقَّون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ جديدٍ من الوحي، ويستمعون له صلى الله عليه وسلم وهو يذكِّرهم بالله، ويتلو عليهم القرآن، ويضعون بين يديه كلَّ ما في نفوسهم وواقعهم؛ فيربيهم صلى الله عليه وسلم على عينه كما تربَّى هو على عين الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وأصبح هذا الجمع هو قرَّة عين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ([2]) .

المادة الدراسية في دار الأرقم:

كانت المادَّة الدراسية الَّتي قام بتدريسها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  في دار الأرقم، القرآن الكريمَ، فهو مصدر التَّلقِّي الوحيد، فقد حَرَصَ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم  على توحيد مصدر التَّلقِّي، وتفرُّده، وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج، والفكرة المركزيَّة الَّتي يتربَّى عليها الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، وكان روح القُدُس ينزل بالآيات غضَّةً طريَّةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيسمعها الصَّحابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم  مباشرةً، فَتُسْكَب في قلوبهم، وتتسرَّب في أرواحهم، وتجري في عروقهم مجرى الدَّم، وكانت قلوبهم، وأرواحهم تتفاعل مع القرآن، وتنفعل به، فيتحوَّل الواحد منهم إلى إنسانٍ جديدٍ؛ بقيمه، ومشاعره، وأهدافه، وسلوكه، وتطلُّعاته. لقد حرص الرَّسول صلى الله عليه وسلم حرصاً شديداً على أن يكون القرآن الكريم وحده هو المادَّة الدراسية، والمنهج الَّذي تتربَّى عليه نفوس أصحابه، وألا يختلط تعليمهم بشيءٍ من غير القرآن([3])..

في دار الأرقم تعلَّموا: أنَّ القرآن الكريم، وتوجيهات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، هما الدُّستور الأعلى؛ للدَّعوة، والحياة، والدَّولة، والحضارة. كان القرآن الكريم المادَّة الدراسية الوحيدة الَّتي تلقَّاها تلاميذ مدرسة الأرقم على يد المربِّي الأعظم محمَّد صلى الله عليه وسلم، فهو المصدر الوحيد للتلقِّي، وعليه تربَّى الجيل الفريد من هذه الأمَّة العظيمة، فهو كتاب هذه الأمَّة الحيُّ، ورائدها النَّاصح، وهو مدرستها الَّتي تتلقَّى فيها دروس حياتها.

لقد تلقَّى الرَّعيل الأوَّل القرآن الكريم بجدِّيَّةٍ، ووعيٍ، وحرصٍ شديدٍ على فهم توجيهاتـه، والعمل بها بدقَّـةٍ تامَّةٍ، فكانوا يلتمسون من آياته ما يوجههم في كلِّ شأنٍ من شؤون حياتهم الواقعيَّة، والمستقبليَّة.

نشأ الرَّعيل الأوَّل على توجيهات القرآن الكريم، وجاءوا صورةً عمليَّةً لهذه التَّوجيهات الرَّبَّانيَّة، فالقرآن كان هو المدرسة الإلهيَّة، الَّتي تخرَّج منها الدُّعاة، والقادة الرَّبَّانيُّون، ذلك الجيل الَّذي لم تعرف له البشريَّة مثيلاً من قبلُ، ومن بعدُ. لقد أنزل الله القرآن الكريم على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لينشئ به أمَّةً، ويقيم به دولةً، وينظِّم به مجتمعاً؛ وليربِّيَ به ضمائر، وأخلاقاً، وعقولاً، ويبني به عقيدةً، وتصوُّراً، وأخلاقاً ومشاعر، فخرَّج الجماعة المسلمة الأولى الَّتي تفوَّقت على سائر المجتمعات في جميع المجالات؛ العقديَّة، والرُّوحيَّة، والخلقيَّة، والاجتماعيَّة، والسياسية، والحربيَّة([4]).

الأسباب في اختيار دار الأرقم:

كان اختيار دار الأرقم لعدَّة أسبابٍ؛ منها:

1 ـ أنَّ الأرقم لم يكن معروفاً بإسلامه، فما كان يخطر ببال أحدٍ أن يتمَّ لقاء محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بداره.

2 ـ أنَّ الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه من بني مخزوم، وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل لـواء الحرب ضدَّ بني هاشم، ولم يكن الأرقم معروفاً بإسلامه، ولن يخطر في البال أن يكون اللِّقاء في داره؛ لأنَّ هذا يعني: أنه يتمُّ في قلب صفوف العدوِّ.

3 ـ أنَّ الأرقم بن أبي الأرقم كان فتىً عند إسلامه؛ فلقد كان في حدود السَّادسة عشرة من عمره، ويوم أن تفكِّر قريش في البحث عن مركز التجمُّع الإسلامي، فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصِّغار من أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ بل يتَّجه نظرها، وبحثها إلى بيوت كبار أصحابه، أو بيته هو نفسه صلى الله عليه وسلم  .

قد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التَّجمُّع على الأغلب في أحد دور بني هاشم، أو في بيت أبي بكرٍ رضي الله عنه، أو غيره؛ ومن أجل هذا نجد أنَّ اختيار هذا البيت كان في غاية الحكمة من النَّاحية الأمنيَّة، ولم نسمع أبداً: أنَّ قريشاً دهمت ذات يومٍ هذا المركز، وكشفت مكان اللِّقاء([5]).

([1]) اللَّحي: اللَّحي من الإنسان: العظم الَّذي تنبت عليه اللِّحية ، ومن الحيوان العظم الذي على الفخذ.

([2]) انظر: التربية القياديَّة (1/198).

([3]) انظر: دولة الرَّسول صلى الله عليه وسلم من التكوين إلى التمكين ، ص 225.

([4]) انظر: دولة الرَّسول صلى الله عليه وسلم من التكوين إلى التمكين ، ص 335.

([5]) انظر: المنهاج الحركي ، للغضبان (1/49).