همام الطوالبة

في 29 أغسطس تحل ذكرى استشهاد سيد قطب رحمه الله، هذا العملاق الذي يصدق عليه بحق أنه «مالئ الدنيا وشاغل الناس» في العصر الحديث، فمهما اختلف الناس فيه فقد اتفقوا جميعاً على أثره وتأثيره الكبيرين في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر.

كتب قطب 26 كتاباً، منها 13 كتاباً فقط في الفكر الإسلامي، وهو عدد قليل إذا ما قارنته بغيره من أصحاب القلم والأثر، كان أهمها وأشهرها وأجمعها تفسيره «في ظلال القرآن»، ذلك التفسير الذي وضع فيه خلاصة أفكاره في العقيدة والفقه والتربية والدعوة والحركة من خلال فهمه لآيات القرآن الكريم.

لم يكن كتاب «الظلال» الوحيد في تفسير القرآن الكريم أو في ساحة الفكر الإسلامي، ولكنه حظي باهتمام واسع من النخبة والعامة، واحتفظ بمكانته المتقدمة في المكتبة الإسلامية المعاصرة رغم محاولات النيل منه ومن مؤلفه، فما الميزات التي حظي بها «الظلال» لينال هذا الاهتمام وهذه المكانة؟

لعل أول ما يلفت القارئ في تفسير الظلال قصة كتابته، تلك القصة الملحمية التي تروي حياة أديب ثائر عاش مع القرآن، واستلهم منه تلك المبادئ الجليلة التي آمن بها وسجلها في كتابه، ثم دفع ثمن ذلك من حريته وحياته، كتب تفسيره مرتين؛ مرة بمداد العلماء وأخرى بدماء الشهداء، فحروف القرآن نور، ودماء الشهداء نور، و«في ظلال القرآن» نور على نور، كما يقول د. عدنان زرزور.

تلك الكلمات التي في «الظلال» لم تكن من كاتب مترف يعيش في مكتبته وبين أوراقه، بل كانت من مناضل حقيقي عاش تلك الكلمات وكتب كثيراً منها في سجون الظلم والطغيان، وعلى الرغم من أن لوائح السجن تمنع السجين من الكتابة وتحرم عليه اقتناء الكتب وأدوات التأليف، فإن حكم المحكمة ودعوى الناشر -الذي كان قطب قد تعاقد معه على كتابة «الظلال» قبل دخول السجن- ألزم الحكومة بالسماح له بالكتابة بدل أن تدفع آلاف الجنيهات كتعويض لدار النشر.

وتحت إشراف الشيخ محمد الغزالي -الذي عينته الحكومة حينها رقيباً دينياً على «الظلال»- أكمل قطب كتابه في نهاية الخمسينيات، وأعاد النظر في بعض أجزائه في بداية الستينيات، حتى اعتقل في صيف عام 1965م ثم أعدم في صيف العام الذي يليه، دون أن يقدم أي تنازل أو اعتذار أو استرحام قائلاً: «لماذا استرحم؟! إن كنت محكوماً بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوماً بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل«، و«إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفاً واحداً يقر به حكم طاغية».

بهذه القصة الملحمية في تلك المرحلة التاريخية ظهر كتاب «الظلال» لمفكر إسلامي آمن بفكرته حقاً واعتقد بها اعتقاداً حاراً، وبذل في سبيلها كل ما يملك، حتى لقي الله مظلوماً شهيداً، والناس مجبولة على حب الصدق والثبات والتعاطف مع المظلوم وكراهية الظالم.

أما ما خطه قطب في «الظلال» فقد كان مميزاً أيضاً، مميزاً من حيث المادة ومميزاً من حيث الصورة، أما في المادة والمضمون فقد جاء «الظلال» نسيجاً وحده، يجمع خيوط الآية الواحدة إلى خيوط الآيات الأخرى في السورة، ليظهر نسيج الوحدة الموضوعية فيها، ثم يأخذ موضوع السورة الواحدة ليجعله في نسق القرآن العظيم كله، يظهر مقاصده وأهدافه، ويبرز غاياته وكلياته، فتقرأ في كل آية معنى جديداً ينسجم مع مجموع الآيات، ومن مجموع الآيات يظهر لك المعنى الكلي للسورة، التي تحقق مع مجموع السور تلك الرؤية الكلية الشاملة للدين، وهو مع هذا كله يأخذ بيد القارئ ليعيش الزمن الأول لنزول الآيات الكريمة، فيقرأَ أحداث عصر النبوة بعيون قرآنية، ويرسمَ معالم التوجيه الرباني لجيل الصحابة الأكرم رضي الله عنهم، ذلك الجيل القرآني الفريد كما سماه.

أما في الصورة والشكل فقد تميزت ألفاظ «الظلال» وعباراته بلغة أدبية عالية قريبة، تعلو بجزالتها وجمالها ودقتها، وتقرب بملامستها لقلوب قُرَّائها وعقولهم وفطرتهم، تشعر معه وكأن الآيات الكريمة تكلمك وتهمس في أذن قلبك، تأخذ بيدك إلى ظلال وارفة في حر شمس الواقع الحارقة، تشعر معها بحرارة الإيمان وبرد اليقين، وتستروح بها ومعها من صعوبات الحياة وآلام الدعوة ومخاض الميلاد الجديد.

هذه اللغة الأدبية الرائعة هي التي حملت تلك المقاصد الكلية الجامعة في ظلال القرآن الكريم، وهي التي كانت تنادي بأن «المستقبل لهذا الدين»، وأن «العدالة الاجتماعية» لا تتحقق إلا في حاكمية الإسلام، وأن لطريق الدعوة «معالم في الطريق» لا تقف عند «التصوير الفني في القرآن» فقط، بل تستمر لتخوض «معركة الإسلام والرأسمالية»، و«معركتنا مع اليهود» لتصل إلى مشروع «السلام العالمي» في ظلال الإسلام.

لقد أراد صاحب «الظلال» أن يزيل الفجوة بين المسلمين والقرآن، وأن يستعيد القرآن فيهم، فجمع لهم نظرته الكلية ومقاصده الربانية في كل آية، وبين لهم مهمته العملية الحركية، ليزكيهم على آياته تزكية متكاملة، ويربط أحكام القرآن العملية بأحكام القرآن العقدية، فتجيب على أسئلة العصر واحتياجاته، وتواجه قوى الجاهلية المعاصرة.

أُدركُ أن البعض أخطأ كثيراً في فهم «الظلال»، فغلا فيه بظلم، أو حمَّله غلو البعض بظلم، ولكن «الظلال» لا يُقرأ عضين على طريقة من يقف على «ولا تقربوا الصلاة»، بل يُعطف بعضه على بعض ليعكس نظرة مؤلفه المتكاملة كما أرادها هو.

أعتقد أن «الظلال» كتاب مهم، فيه كثير من النظرات التي تستحق التأمل والبحث، وأعتقد أنه لم ينل حقه من الدراسة الموضوعية العلمية المحايدة بعيداً عن ضغط العاطفة وأغراض السياسة، لنستفيد من تجربة مفكر عملي كبير، عاش عصرنا وحاول أن يعالج مشكلاته، وهذا لا يعني عدم خطأ المؤلف في جهات أو عدم دقة تعبيره في كلمات، ولكن النظرة العلمية المنصفة تلزمنا ألا نكون من المطففين، وأن نحفظ لـ«الظلال» حقه الذي أبقاه كتاباً حياً بين الناس رغم تجني الجاهلين، ولا تكفي مقالة واحدة لقول كل ما يجب قوله في هذا السفر العظيم.