لقد أرسى القرآن الكريم والسنة المطهرة مبدأَ السماع للآخر، سواءٌ كان موافقًا لشريعتنا أو مخالفًا لها، فسمع الله دعاوى المشركين على الرغم من سذاجتها وضعف حجتها، لكنه سبحانه وتعالى لم يحجر عليهم ولم يمنعهم من التحدث بحجتهم، ولو شاء سبحانه وتعالى أن يُخرِس هذه الألسنةَ فلا تنطق إلا بالحق ولا تجهر إلا بالصدق لكان ذلك سهلاً ميسورًا ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام: 112) ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ (هود: 118- 119).
والآيات كثيرة في سماع حجج الكافرين والمنافقين والردِّ عليهم بحججٍ قوية وبراهينَ ساطعةٍ واضحةٍ.. لكننا نعرض في هذه السطور شيئًا سريعًا مختصرًا عن سماع النبي- صلى الله عليه وسلم- للرأي الآخر، مهما كان بعيدًا عن الحقِّ ومجافيًا للصواب، ومن هذه المواقف:
الرسول صلى الله عليه وسلم والوليد بن المغيرة
فقد جاء في كتب السيرة أن عتبةَ بن ربيعة لما رأى أصحابَ النبي يزدادون كلَّ يوم كثرةً قال: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمدٍ فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلِّمْه, فقام إليه عُتبةُ حتى جلس إلى رسول الله, فقال: يا ابن أخي، إنك منَّا حيث قد علمت من الشرفِ في العشيرةِ والمكانِ في النسب, وإنك قد أتيت قومَك بأمرٍ عظيمٍ، فرَّقتَ به جماعتَهم، وسفَّهت به أحلامَهم، وعِبت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم, فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد.. أسمع".
قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالِنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفًا سوَّدناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا في أموالنا حتى نُبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوى منه، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه، قال:أوقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال: أفعل.
قال: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ ﴿حم(1) تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(4)﴾ (فصلت)، ثم مضى رسول الله فيها يقرأها عليه، فلما سمعها عتبة منه أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره متعمدًا عليهما يستمع منه، ثم انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك".
ولما أكثر الجدال معه قال:ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالَكم, ولا الشرفَ فيكم, ولا الملكَ عليكم, ولكنَّ الله بعثني فيكم رسولاً, وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكونَ بشيرًا ونذيرًا, فبلغتكم رسالةَ ربي ونصحت لكم, فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكمَ الله بيني وبينكم".
فقام إلى أصحابه فقال بعضهم: نحلف والله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس قالوا: ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً، والله ما سمعت مثلَه قط، والله ما هو بالشِّعر ولا بالسِّحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزِلوه، فوالله ليكوننَّ لقوله نبأٌ، فإن تُصبه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فمُلكه مُلككم، وعِزُّه عزُّكم، وكنتم أسعدَ النَّاس به، قالوا: سَحَرَكَ واللهِ بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.
فنحن نرى إلى أي حدٍّ سمع النبي- صلى الله عليه وسلم- الوليد بن المغيرة، على الرغم من الاتهاماتِ المجحفة الظالمةِ التي وجهها هذا الرجل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فما عنَّفه وما سفَّهه، وما انشغل عن دعوة الله بالدفاع عن شخصه الكريم؛ لأنه يعرف هدفه وغايته، ويأبى كل الإباء أن يصرفه أحد كائنًا مَن كان عن تبليغ دعوة الله وتبيينها واضحةً جليةً ليهلك مَن هلك عن بيِّنةٍ ويحيا من حيَّ عن بينة.
الرسول والشباب في غزوة أحد
وكانت أخبارهم قد وصلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك عن طريق عمه العباس في مكة, فعقد اجتماعًا موسعًا لأصحابه لأخذ رأيهم في أسلوب المواجهة, فرأى بعضهم أن يخرج إليهم سريعًا, ويلتقي بهم خارج حدودِ المدينة.
وقالوا: يَا رَسُولَ الله لا نحِب أَنْ تَرْجِعَ قُرَيْشٌ إلَى قَوْمِهَا فَيَقُولُونَ: حَصَرْنَا مُحمدًا في حصون يَثْرِبَ وَطرقاته, فَيَكُونُ هَذَا جُرْأَةً لِقُرَيْشٍ, وَقَدْ وَطِئُوا سَعَفَنَا، فَإِذَا لَمْ نَذُبّ (ندافع) عَنْ عِرْضِنَا وأرضنا فعمن ندافع؟! وَقَدْ كُنّا يَا رَسُولَ اللهِ في جَاهِلِيّتِنَا وَالْعَرَبُ يَأْتُونَنَا، وَلا يَطْمَعُونَ بِهَذَا مِنّا حَتّى نَخْرُجَ إلَيْهِمْ بِأَسْيَافِنَا حَتّى نَذُبّهُمْ عَنّا، فَنَحْنُ الْيَوْمَ أَحَقّ إذْ أَيّدَنَا اللّهُ بِك، وَعَرَفْنَا مَصِيرَنَا، لا نَحْصُرُ أَنْفُسَنَا في بُيُوتِنَا.
ورأى البعض أن يحصنوا أنفسهم داخل المدينة ويغلقوا طرقاتها الرئيسة, فإذا ما جاء الأعداء لم يجدوا إلى الدخول للمدينة سبيلاً, ورماهم الولدان والنساء من فوق الحصون, وقاتلهم الرجال في الأزقة حتى يردوهم خاسئين, وكان رسول الله يؤيِّد هذا الرأي, وأيده أيضا عبد الله بن أبيَّ كبير المنافقين.
لكن رسول الله لما رأى أن الأغلبية تأبى إلا الخروج نزل على رأيهم, وَدَخَلَ صلى الله عليه وسلم بَيْتَهُ ليلبس ملابس القتال, فَقَال بعض من كانوا يشيرون بالخروج: لعلنا اسْتَكْرَهْناه على الخروج, ومَا كَانَ لَنَا أَنْ نُلِحّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ في أَمْرٍ يَهْوَى خِلافَهُ, والوحي يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ السّمَاءِ فَرُدّوا الأَمْرَ إلَيْهِ، فَمَا أَمَرَكُمْ فَافْعَلُوهُ وَمَا رَأَيْتُمْ لَهُ فِيهِ من هَوًى أَوْ رَأْيٍ فَأَطِيعُوهُ، فَبَيْنَما الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الأَمْرِ إذْ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ لَبِسَ لأْمَتَهُ، وَقَدْ لَبِسَ الدّرْعَ فَأَظْهَرَهَا.
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُخَالِفَك فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك، وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَسْتَكْرِهَك وَالأَمْرُ إلَى اللّهِ، ثُمّ إلَيْك، فَقَالَ: "قَدْ دَعَوْتُكُمْ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَأَبَيْتُمْ وَلا ينبغي لنبي إذَا لَبِسَ لأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ"، ثُمّ وَعَظَ النّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدّ وَالْجِهَادِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّ لَهُمْ النّصْرَ مَا صَبَرُوا وأطاعوا أمره.
الرسول والأنصار في غزوة الخندق
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه أصحابُه من الخوف عزم على أن يرسل إلى غطفان ويعرض عليهم أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة في مقابل أن ينصرفوا عنه, واستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة- رضي الله عنهما- في ذلك فقالا: يا رسول الله أمرًا تحبه فنصنعه أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا منه، أم شيئًا تصنعه لنا؟!
قال:"بل شيءٌ أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم"، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك، ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرةً إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله.
الرسول والمنافقون في المدينة
عامَل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين حسبَ ما ظهر منهم، على الرغم من أن الله أطْلَعه على نفاقِهم وعرفهم فردًا فردًا، ولما أشار عليه بعض الصحابة بقتلهم قال مقولته المشهورة التي سجَّلها التاريخ بأحرف من نورك "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" وكان من أشد هؤلاء عليه وعلى الإسلام والمسلمين عبد الله بن أبيّ بن سلول الذي كان دائمَ الكيد والمكرِ برسول الله- صلى الله عليه وسلم- خاصةً وبالإسلام والمسلمين عامة، وكان يقبل منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويستمع إليه، حتى إنه قبل شفاعته في يهود بني قينقاع وهو كارهٌ لذلك في موقفٍ سجلته لنا كتبُ السيرة، وذلك بعد أن حاصر النبي يهود بني قينقاع وحاصرهم حصارًا طويلاً انتهى باستسلامهم، فقام عبد الله بن أبي بن سلول فألحَّ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يصدر عنهم العفو، فقال: يا محمد، أحسِن في موالي، وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج.
فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكرَّر ابن أبيّ مقالتَه فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلني"، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً، ثم قال: "ويحك، أرسلني"، ولكن المنافق مضى على إصراره وقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟! إني والله امرؤٌ أخشى الدوائر، وعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنافق بالحُسنى، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذْرُعَات الشام.
وعلى الرغم من الإيذاء المتكرِّر من هذا الرجل المنافق حتى وصل به النفاق والكفر أن يتهم الرسول في عرضه وعرض المسلمين جميعًا عائشة زوج النبي بنت أبي بكر الصديق الطاهرة النقية، وظل على نفاقه حتى أتى ابنه عبد الله وكان من أجل الصحابة فاستأذنه في قتل أبيه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "بل نحسن إليه ما دام حيًّا"، وبعد ذلك صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكفنه في ثوبه؛ إكرامًا لولده ومعلمًا لنا جميعًا درسًا عظيمًا في السماع للآخر مهما بلغ سفهه، وضعفت حجته.