بقلم د. فضل عبد الله مراد*

أعظم الفقه هو فقه القدوم على الله لأن عليه محور النجاح الخالد والفلاح المستمر والفوز الأبدي، وما كان كذلك فهو وربي من أعظم ما يجب على الإنسان أن يعلمه ويتفقه فيه ويبلغه للناس، وقد ندر من يعرفه واندرس من يسلك مسالكه إلا قليل من الآخرين وأين هم.

وقد أشغلني هذا طويلا حتى جعلت له قسما مستقلا في موسوعة معالم الاجتهاد في فقه العصر، وألخص هنا أصوله السبعة فقط ليستفيد منها الناظر، ويبني عليها ما يفقهه من كتاب وسنة، فبالتأمل في نصوص الكتاب والسنة ودلالاتها وهداياتها تبين أن فقه القدوم على الله مبناه على سبعة أصول:

الأصل الأول: تطهير القلب من أمراضه:

وأخطرها الرياء والشهوات والشبهات والحسد والغل والبغضاء وتمكن حب الدنيا على الآخرة والتنافس عليها.

والكبر والغرور وبطر الحق وجحد نعمة الله، واليأس والقنوط من رحمته سبحانه، والإصرار على الآثام مع علمه بأنها حرام وتعمد الإصرار بلا ندم وتوبة.

وأصل تطهير القلب من هذه الأمراض يكون بعلاج سببه الأكبر وأساسه المركزي وهو الغفلة، فهي علة كل مرض تهدم القلب وتكثر أمراضه كما يهدم مرض الإيدز الجهاز المناعي ويفتك به إن لم يتنبه له ويعالج بما يجد منه.

فتكثر الأمراض بأدنى سبب حتى يهلك المصاب، وأصل علاج الغفلة دوام ذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم، فمن يسر الله له دوام الذكر دواي قلبه من الغفلة، وحين تنقشع الغفلة بأنوار الذكر تذوب أمراض القلب ذوبان الدجال إذا تجلى له الحق.

وهذا ما يعطيه قوله تعالى: ﴿وَقُلۡ جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَـٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقࣰا﴾ [الإسراء ٨١]، فأصل الباطل زهوق بهذه الصيغة الدالة على شدة وكثرة زهوقه.

كما يدل النص على يسر زهوقه وبساطتها وسرعتها وتكرر ذلك كله، فهي سنة ربانية في الباطل يجب أن تكون راسخة في وعي كل مؤمن وعقيدته.

فالباطل كثير الزهوق سريع التلاشي يسير إزالته، لا كما يصور الشيطان وأولياؤه الباطل وينفخونه للناظرين من خلال سحرة الإعلام ورهبان النفاق فهو عكس ذلك في حقيقة الأمر وواقع الأحداث، إنه ينفثئ كالفقاعة إن لمستها يد طفل، أو داعبتها نسمة هواء، إنه يتلاشى كالسراب بمجرد الاقتراب منه، لذلك مثله الله بالسراب. في قوله جل شأنه: ﴿وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَعۡمَـٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِیعَةࣲ یَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَاۤءً حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَهُۥ لَمۡ یَجِدۡهُ شَیۡـࣰٔا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ﴾ [النور ٣٩].

والباطل هو عمل الكافرين وكيدهم وشبههم وأقوالهم وأفعالهم وما يسخرون له من الإمكانات من الشخوص الإنسانية والمادية، ووجود الباطل من أهل الإسلام امتداد لذلك الباطل فإن المسلم السالك دروب الباطل يشبه في العمل مسالك الكفار وسبيلهم.

لذلك منعنا من موالاتهم واتخاذهم دون المؤمنين والتشبه بهم وطاعتهم، وأمرنا بمخالفتهم ومخالقة سبلهم التي هي إما ضلال أو غضب وهو ما ذكره الله تعالى في سورة الفاتحة؛ فقال من استوى على عرشه سبحانه وتعالى: ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ ۝٦ صِرَ ٰطَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِمۡ غَیۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَیۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّاۤلِّینَ ۝٧﴾ [الفاتحة ٦-٧].

 والحاصل أنه بمجرد إحلال الحق وحضوره على الساحة القلبية والأسرية والمجتمعية والدولية ينسحب الباطل زاهقا، ولا يعود إلا إن ضعف أهل الحق وقصروا في بيانه.

فتنبه لقلبك فإنه أساس فقه القدوم على الله وطهره من أمراضه ومن علتها المركزية وهي الغفلة، وتنبه لعلاجها الأكبر وهو دوام ذكر الله، فلم نؤمر بشئ من العبادات إكثارا ودواما، كالذكر على كل حال قياما وقعودا وعلى جنوبكم، سلما وحربا سفرا وحضرا صحة ومرضا فقرا وغنى رئيسا ومرؤوسا.

وتلخيص هذا التكليف في عبارة: اذكر الله تحت كل سماء وفوق كل أرض بلا انقطاع ولا كلل ولا ملل؛ فمن اكتشف أمراض قلبه وعرف أن سببها الغفلة عن الله وعالجها بالذكر ذابت الغفلة ذوبان الجليد بسياط الشمس الحامية، فتصير الأمراض مكشوفة لا حماية لها فتحرق بأنوار الذكر المستمر حتى يمتلئ القلب بنور الله، فيصلح حال الإنسان وعمله وقوله وحياته كلها.

الأصل الثاني: تجنب الاقتراب من مسارح الموبقات الكبائر والإصرار على الذنوب والآثام ولو من غير الكبائر:

ففرض على كل مؤمن أن يعلم الكبائر ليجتنبها لأنه سبيل النجاة والمغفرة والكرامة؛ لقوله تعالى: ﴿إِن تَجۡتَنِبُوا۟ كَبَاۤىِٕرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلࣰا كَرِیمࣰا﴾ [النساء ٣١]، وقد تتبعتها طويلا وبسطت القول فيها في كتابنا خارطة النظر الفقهي بما يقر العين ويشرح الصدر، فعليك به.

الأصل الثالث: التورع عن الشبهات:

فإن التورع عن الشبهات سد منيع عن مسالك الحرمات، فإن من وقع في الشبهات وقع في الحرام، وفي الحديث: في الصحيحين عن ‌النعمان بن بشير قال: سمعته يقول: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه): إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، ‌فمن ‌اتقى ‌الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب].

وهل الشبهات من الحرام أم لا؟ فمن قال هي من الحرام استدل بما في النص السابق: "فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام"، ومن قال ليست من الحرام استدل بما في النص السابق "كالراعي يرعىحول الحمى يوشك أن يرتع فيه أو يواقعه". والصحيح أنها وسط خطير مشتبه لا هي حلال بين ولا حرام بين، فمن أكثر ورودها ضاع ورعه، وسقط في المحرمات عاجلا أو آجلا، كما يدل عليه نص الحديث، وعلى هذا يحمل.

ومن أشهر الشبهات ما فيها خلاف فقهي تنازعته أدلة الحرام وأدلة الحلال مع تقارب بينهما وتعادل، وهنا يختلف العلماء فمنهم من يقول هي حرام ومنهم من يقول هي حلال ومن من يتوفف، فهذا الموطن الحذر الحذر منه.

الأصل الرابع: تحقيق الإحسان في الصلاة بتمام الخشوع:

وأخص هنا الخشوع في الصلاة لأنه رأس سبيل الفلاح المحقق بالنص: قال تعالى: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ۝١ ٱلَّذِینَ هُمۡ فِی صَلَاتِهِمۡ خَـٰشِعُونَ ۝٢﴾ [المؤمنون ١-٢]، فقدم الخشوع في الصلاة على كل خصلة جاءت بعدها في الآيات.

لأنه بوابة الفلاح المحققه، من حققها وأحسنها فغيرها أهون؛ فمن أراد الفلاح الذي لا مرية فيه ولا شك فهذا سبيله، وما أيسره لكل ذي همة مع ربه، فعليك بالخشوع في الصلاة، ثم دوام ذلك الخشوع، ثم الإحسان في الخشوع، ثم دوام ذلك الإحسان ولزومه بلا انقطاع، ومن رأس التعبدات قيام الليل فإنه سر المؤمن وخبيئته بينه وبين ربه، حيث تحلك الظلمات وتخر الأبدان صرعى على الأرض تغط في عميق السبات يقوم الرباني يصارع الراحة ويعلن الجفاء بينه وبين فراشه الوثير.

وهذا ما أشار له النص في قوله تعالى: {إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) ‌فَلَا ‌تَعْلَمُ ‌نَفْسٌ ‌مَا ‌أُخْفِيَ ‌لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيَنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].

فقرة الأعين المخبأة عند الله هي لهذا الفوج القانت آناء الله ساجدا وقائما جاءت في سياقهم ومساقهم، ووقت قيام الليل يبدأ من بعد المغرب؛ فعن أنس رضي الله عنه بسند صحيح في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}: نزلت في انتظار الصلاةِ التي تُدعى العَتَمَة، رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح غريب" وأبو داود؛ إلا أنه قال: كانوا يتيقظون ما بين المغرب والعشاء، يصلون وكان الحسن يقول: قيام الليل.

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "أتيتُ النبيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فصليت معه المغربَ، فصلى إلى العشاء". رواه النسائي بإسناد جيد.

وأهل الليل القانتون مخصوصون بعلو الشأن وعظيم الجزاء في الآخرة، كما في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عَمروٍ رضي الله عنهما عن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: "في الجنةِ غرفةٌ يُرى ظاهرُها من باطِنها، وباطِنُها من ظاهرها"، فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسولَ الله؟ قال: "لِمَنْ أطابَ الكلامْ، وأطعم الطعامْ، وباتَ قائماً والناس نيامْ". رواه الطبراني في "الكبير" بإسناد حسن، والحاكم، وقال: "صحيح على شرطهما".

ولأهل قيام الليل ساعة يفتح فيها الباب على مصاريعه للإجابة والعطاء والمنن الربانية، كما في الحديث الذي رواه مسلم : عن جابر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول: "إنَّ في الليلِ لساعةً لا يوافقها رجلٌ مسلمٌ يسأَلُ اللهَ خيراً من أمرِ الدنيا والآخرةِ؛ إلا أعطاهُ إياه، وذلك كلَّ ليلةٍ" انتهى.

فكيف يفرط مفرط في مثل هذا؟ وقيام الليل ينعكس على حياتك كلها توفيقا وهدى وتأييدا، وقد جاء في الحديث الثابت أنه (منهاة عن الإثم). فكما أنه عامل محفز على الطاعة هو من جهة أخرى مكافح مركزي للآثام، ومن أسعده الله حفظه من الآثام والذنوب.

الأصل الخامس: عليك بالصبر في سائر المقامات لتحقيق هذه الأصول ورتبها:

وهو صبران:

- الأول: الصبر على منازل السير بدأ بالصبر على العمل ثم الصبر على لزوم العمل ودوامه ثم الصبر على إحسان العمل، ثم الصبر على دوام ذلك الإحسان.

- والثاني: صبر على مقارعة النفس وكسلها وتخذيلها ووساوس شياطين الإنس والجن الصادين لك عن مواصلة السير إلى الله، وصبر على لزوم تلك المقارعة والنباهة التامة لتلك المخاطر، وصبر على دوامها وإحسانها حتى تصير ملكة مهارية سلوكية في النفس.

الأصل السادس: تحقيق الموجبات والمرجحات:

أما الموجبات للمغفرة والرضوان والجنة فالمفروضات والواجبات من العبادات والطاعات أما المرجحات فهي القربات النافلات، وسميتها الموجبات لأنها موجبة للنجاة والفوز، وسميت الأخرى المرجحات لأنها تثقل الموازين وتجبر الخلل في الموجبات، وكل هذه أخذته من أدلته المستفيضة من الكتاب والسنة.

الأصل السابع: العدل والإحسان:

في أمور الدين والدنيا، ومع النفس في سائر أعمالك وقرباتك الظاهرة والباطنة، وتحقيق العدل والإحسان مع الخلق من الأسرة إلى عموم الدوائر المجتمعية والعلاقات الإنسانية.

فهذه الأصول السبعة عليها مدار فقه القدوم على الله، وهي أصول الصراط المستقيم، وسنبسطها بإذن الله في قسمها من موسوعة معالم الاجتهاد في فقه العصر يسر الله تمامها ونشرها.

*الأمين المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين