بقلم: د. حمدي فتوح والي
يؤكد التاريخ حقيقةً أصبح يعلمها الصغير والكبير، والعالم والمستعلم، وهي أن أكبر دول العالم الإسلامي وأكثرها سكانًا دخلوا في الإسلام بغير حرب ولا قتال، بل بغير أن يروا صحابيًّا واحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين حملوا راية الفتح في سبيل الله.
ولك أن ترجع إلى كتب التاريخ لتعرف كيف دخل الإسلام إلى آسيا وإندونيسيا وماليزيا والملايو والفلبين وسنغافورة والصين وغيرها من هذه البلاد؛ لترى حقيقةً واضحةً جلية؛ هي أن سبب دخول أهل هذه البلاد في الإسلام كان بسلاح عجيب وهو حسن الخلق، وحسن المعاملة، والقدرة الفائقة على إظهار الإسلام سلوكا يمارس وأخلاقا تطبق، ويقينا عميقا وتصديقا بالله.
وهذا السلاح الرقيق الجميل هو الذي استعمله رسولنا صلى الله عليه وسلم في التحرك بدعوته بين الناس في مكة، عاملا بقول ربه سبحانه: (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ (199)) وأعلمه ربه سبيل العمل له وطريق الوصول إليه بقوله: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108)) (يوسف)، وأثنى عليه بأخص ما منحه وأعز ما أعطاه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)) (القلم)، وأعلمنا الحق سبحانه وتعالى أن أيسر السبل للوصول إلى قلوب الناس هو الرفق وحسن الخلق والعفو والصفح والتواضع للناس وخفض الجناح، وهذا ما نفهمه من قول ربنا سبحانه: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمرن: من الآية 159).
وخص الله سبحانه وتعالى أمر التواضع للناس بالذكر في قوله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (الحجر: من الآية 88)، وكررها في قوله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (215) (الشعراء).
ولم يمدح الحق سبحانه وتعالى الذلة والضعف في موقف إلا عند دعوة الأخ لأخيه وتعامله معه، وذلك في قوله تعالى يصف أخلاق المؤمنين: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: من الآية 54) ووصفهم في آية أخرى برحمة بعضهم لبعض في قوله تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: من الآية 29).
وأرشدنا ربنا سبحانه إلى أمثل السبل وأضمنها للوصول إلى قلوب الناس بقوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) (فصلت).
وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى أمضى سلاح تفتح به العقول وتغزى به النفوس بقوله: "لن تدخلو الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السلام بينكم".
إن الداعية رجل عاش في معية الله فانسكبت في روحه معاني الرحمة والرفق والشفقة؛ فهو دائم الخوف على الناس من سوء المصير رحمة بهم وشفقة عليهم، وتلك هي أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)) (التوبة).
والمواقف الدالة على حسن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أعدائه وأثر هذه المواقف في انفعال القلوب مع دعوته أكثر من أن تحصى، والعلماء أولى الناس اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه طائفة من مواقف علماء الأمة تظهر مدى وعيهم بأثر الخلق الحسن في بلوغ الدعوة إلى قلوب الناس.
ومن خلال هذه المواقف يظهر لنا عمق الربانية وصدق النية وسلامة القصد وحسن المعاملة، مع الانحياز الكامل إلى نصرة الدين وإحقاق الحق مهما كانت صولة الحاكم وقوته.
وسأقدم للقارئ الكريم صفحة من أنصع صفحات التاريخ تُظهر أدب المناصحة للحاكم في استعلاء إيماني واثق، وعزة تفوق عزة الملوك وتواضع خالص لله، وثقة عميقة بصحبة ما يدعو إليه، ممثلة في الإمام الأوزاعي.
واختياري للأوزاعي لم يأتِ من باب تفرده بذلك، وإنما اخترته لأنه لم يأخذ حقه في أدبياتنا الدعوية ولم يشتهر لدى المختصين فضلا عن خمول ذكره لدى بقية المثقفين.
فكان من حقه علينا أن نقدمه لأحفاده من علماء زماننا حتى يحسنوا الاقتداء به؛ فتثمر القدوة في حياتهم ثمرتها المرجوة، ثم أقدم بعده صفحة من صفحات أدب الاختلاف بين العلماء مع احتفاظ كل عالم لأخيه بالحب والتوقير والإجلال.
الإمام الأوزاعي بين العلم والعمل:
يروي ابن خلكان ص 268 ج1: أن سفيان الثوري بلغه مقدم الأوزاعي إمام أهل الشام، فخرج حتى لقيه بذي طوى (1)، فحل سفيان رأس بعيره من القطار ووضعه على رقبته، فكان إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ.
وهذه صفحة أخرى من صفحات تاريخنا الناصع تظهر أدب الاختلاف بين أئمة الأمة وكيف كان رائدهم بلوغ الحقيقة مع حرص كل طرف على تبجيل أخيه وإعلاء جانبه ومراعاة مشاعره، وهي مساجلة كتابية بين إمام دار الهجرة "الإمام مالك" وإمام أهل مصر "الليث بن سعد".
وإذا كانت هذه الصفحات قد اقتصرت على تجلية بعض الملامح في حياة الأئمة الثلاثة، فإن صفحات التاريخ عامرة حافلة بالمثل الفاضلة والأخلاق العالية التي نحن في أمس الحاجة إلى تمثلها والانتفاع بها.
وإذا كان هؤلاء الأماجد الكرام قد وجدوا عونا على أداء دورهم بقرب زمانهم من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمق يقين الناس في دأبهم وشدة قربهم من خالقهم، فإنهم على الجانب الآخر كانوا مشغولين بالغزو والفتح.
ومعاناة الدعوة مع أهل الأقاليم المفتوحة التي لا عهد لأهلها بالإسلام، فضلا عن جهل أبناء الدول المفتوحة العربية التي هي لغة القرآن؛ لكنهم مع ذلك صابروا ورابطوا وجاهدوا لكي يقيموا دعائم هذا الدين ويرفعوا راياته ويؤسسوا للأمة مجدا تليدا وتاريخا مجيدا.
وسنحاول في الصفحات التاليات تجلية بعض هذه الأخلاق ليتأسى بها علماؤنا اليوم متمثلين معهم قول القائل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
ومن هذه الأخلاق التي نَدُر أن نجدها في أهل هذا الزمان، حب العلماء وتبجيلهم ورفع مكانتهم والثناء العاطر عليهم، وأن يقدم العالم من نفسه قدوةً للعامة في تبجيله لأخيه العالم، والاعتراف له بالفضل والإنصاف والبعد عن الحسد والغيرة المذمومة التي سببها الحقد وتلوث الضمير، وفيما قالوا: لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل.
فهذا عبد الله بن مسعود وهو الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه "غلام معلّم" كان يقول: لو سلك الناس واديا وشعبا وسلك عمر واديا وشعبا لسلكت وادي عمر وشعبه"، ويقول: "لو أن علم عمر وضع في كفة الميزان، ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجع علم عمر".
وكما يعترف ابن مسعود لعمر بهذا الفضل في العلم فإن عمر كان يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن (أي سيدنا علي رضي الله عنه).
ويقول عقبة بن عمرو: "ما أرى أحدًا أعلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن مسعود، فقال أبو موسى الأشعري: إن تقل ذلك فإنه كان يسمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل".
والمقصود من قول أبي موسى الأشعري أنه كان يسمع حين لا نسمع ويدخل حين لا ندخل: أن ابن مسعود كان سادس ستة دخولا في الإسلام، وكان يوصف في الصحابة بصاحب "السواد والسواك"، والسواد: المسارّة؛ أي الهمس بصوت منخفض. والسواك: السير الضعيف، أي المشي بين يديه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هيأ له ذلك بأن جعله يسمع سواده ويرفع الحجاب فكان يلج عليه ويلبسه نعليه ويمشى معه وأمامه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام.
قال أبو موسى الأشعري: لقد قدمت أنا وأخي من اليمن وما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم (2).
ولهذا يقول أبو موسى الأشعري لمجلس كنت أجالسه عبد الله بن مسعود أوثق في نفسي من عمل ستة.
وهذا عبد الله بن عباس "حبر الأمة" وعالمها الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، يقول وهو قائم على قبر زيد بن ثابت: "هكذا يذهب العلم"، ويقول ابن مسعود: لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عسره منا رجل (3).
وكان عمر يقول لابن عباس: قد طرأت علينا عُضل أقضية أنت له ولأمثالها.
ويقول الأعمش: كان ابن عباس إذا رأيته قلت أجمل الناس، فإذا تكلم قلت أفصح الناس، فإذا حدَّث قلت أعلم الناس، ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية: مات رباني هذه الأمة.
وهذا علي بن أبي طالب، وهو من هو علمًا وفقهًا وفصاحةً، يشهد لأبي موسى بالعلم فيقول: أبو موسى صبغ في العلم صبغة. ويشهد لسلمان الفارسي فيقول: سلمان علم العلم الأول والآخر، بحر لا ينزع منا أهل البيت.
وقد ظل هذا الأدب النبوي الراقي ينتقل مع العلماء العاملين والدعاة الربانيين، يفرح بعضهم بلقاء بعض وينصف الأخ أخاه اعترافا بفضله وتقديرا لعلمه.
يروي السيوطي في كتابه حسن المحاضرة أنه لما قدم العز بن عبد السالم إلى الديار المصرية، بالغ الشيخ زكي الدين المنذري (4) في الأدب معه وامتنع من الإفتاء لأجله، وقال: كنا نفتي قبل حضوره، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعين فيه (5).
ويروي ابن خلكان: أن سهل بن عبد الله التستري جاء لأبي داود المحدث، فقيل له يا أبا داود: هذا سهل بن عبد الله قد أتاك زائرًا، فرحب به وأجلّه، فقال سهل: يا أبا داود، لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: حتى تقول قضيتها مع الإمكان، قال: قد قضيتها مع الإمكان، قال: أخرج لسانك الذي حدثت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله، قال فأخرج لسانه فقبله.
ولا أظنك يا أخي الداعية إلا قد رأيت أمثلة وعرفت نماذج أدهشك تواضع بعضهم لبعض وإنصاف بعضهم من بعض وتنافسهم في العطاء، وتسابقهم في البذل، فلقد رأيت رجلا من كبار قيادات الإخوان يهوى على يد رجل من عامة الإخوان ليقبلها، وبرغم امتناع الرجل عن ذلك فإنه أصر وأقسم عليه أن يمكنه من تقبيل يده، وعندما سأله عن ذلك الرجل قال: كيف لا أقبل يد رجل حفظني كتاب الله في السجن، قلت كيف ذلك، قال: كنا نخرج إلى الجبل لنقطع الصخر وحملها في الصيف الشديد، فكان الرجل يقرأ الآية وأتلوها بعده ويظل يكررها وأسمعها منه، ثم أسمعها عليه؛ حتى حفظت معظم القرآن، فكان إعجابي عظيمًا بالتلميذ والأستاذ، وقلت: هكذا يفعل الإسلام بأهله.
وقريب من ذلك ما رأيته عندما رأيت أحد نواب الإخوان (6) بعد نجاحه في انتخابات مجلس الشعب سنة 2005م، وذهبنا لتهنئتة والرجل قد تخطى الستين، وكانت دهشتي عظيمة عندما رأيته يهوى إلى يد واحد منا ليقبلها.. فقلت سامحك الله يا أستاذ محمد، أيجوز هذا؟! قال: بل هذا ما يجب أن يكون.. هكذا أُمرنا أن نفعل مع علمائنا، وعندها أدركت أن الإسلام لا يزال بخير وأن قادة السياسة عندما يقدرون العلم ويرجعون إليه لا بد أن تصلح البلاد ويسعد العباد، وتذكرت قول نبينا صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء".
وما أحوج علمائنا اليوم إلى معايشة تلك المعاني وحياء تلك الأخلاق وتوريثها لمن بعدهم حتى يبقى للعلم قداسته وللعلماء هيبتهم وإجلالهم. فقد رأينا كيف أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانة العلماء، فعلى العلماء أن يستنوا بتلك السنة فيصلوا رحم العلم بينهم.
ولقد رأينا في تاريخنا العظيم كيف جعل العلماء العلم دم قرابتهم، وصلة نسبتهم، فصار الإكرام منهم لهم سجيتهم، والدفاع منهم عنهم غريزتهم والتوقير فيهم لهم ديدنهم.
ومن الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها العلماء "الصبر على طلب العلم والشغف به".
روى البخاري في صحيحه من كتاب "الاغتباط في طلب العلم والحكمة" قول عمر بن الخطاب: تفقهوا قبل أن تسودوا، وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم.
ويقول الإمام الذهبي في كتابه تذكرة الحفاظ: كان الشافعي من أحذق قريش بالرمي، كان يصيب من العشرة عشرة، وكان قد برع في ذلك وفي الشعر واللغة وأيام العرب، ثم أقبل على الفقه والحديث وجود القرآن على إسماعيل بن قسطنطين مقرئ مكة، وكان يختم في رمضان ستين مرة، ثم حفظ الموطأ وعرضه على مالك. ويقول ابن خلكان عن الحميي، سمعت الزنجي بن خالد يقول للشافعي: أفتِِ يا أبا عبد الله فقد آنَ لك أن تفتي وهو ابن خمس عشرة سنة (7).
وروى البخاري في صحيحه من كتاب العلم، قال:رحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر لمصر ليلقى عبد الله بن أنيس الجهني في حديث واحد، وقد عقد السيوطي في كتابه "حسن المحاضرة"، فصلاً لهذا الحديث الذي رحل في طلبه جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس في مصر فليطلب هناك.
تلك كانت حالهم في علو الهمة والفهم في العلم رغم ضيق العيش وصعوبة الحياة.
والمؤسف أن شباب اليوم من طلبة العلم قد تهيَّأت لهم أسباب الطلب وتيسرت لهم سبله وأدواته، لكنهم مع ذلك قعدت بهم همتهم، ونكصت بهم عزيمتهم، فلم ينهضوا للعمل نهوض هؤلاء الآباء الكرام؛ لأن الوازع الداخلي الذي يولد الهمة وينهض بالعزيمة قد تراخى بعد أن زاحمته هموم الحياة، والسقوط في دوامة السبقا المحموم إلى الترف، والتردد من الدنيا للدنيا، والتباهي والتفاخر أمام إلحاح الزوجات، والوقوع في أسر الكماليات وتحويلها إلى ضروريات.
وهكذا أصبحت ترى الإمام في صور مختلفة ومتناقضة، فبينما يتقوم ليصلى بالناس، نراه بعد قليل في مهنة من مهن العمال الصناع مما تحتاجه عمليات البناء كالسباكة النقاشة والنجارة وغيرها.
إنك مهما نصحت الإمام وأكثرت له القول في ضرورة التحرز عن هذه المواقف والتنزه عن هذه الشينات ستجد له تبريرات كثيرة من قلة الدخل وكثرة الأعباء، وقد يكون معذورا في ذلك، لكن التفرغ للعلم وطلبه أمر لا يزاحم، ومن هنا فإن أستنفر جهات الخير والمؤسسات العاملة في مجال الإغاثة الإنسانية والإسلامية والجمعيات الخيرية وجهات البر المشهورة أن تعتمد أسلوب التفرغ وتقوم بكفالة الدعاة إلى الله، فالداعية الناجح خير من مدرسة، ويستطيع الداعية المخلص أن يوفق بين أعمال حياته وأعمال الدعوة بتنظيم وقته والحرص على صلاة الفجر في المسجد، وقراءة ورده القرآني وورده اليومي في كتاب من كتب الأمهات، ويجمع حوله بعض الراغبين من طلبة العلم، وبإمكانه أن يخصص لنفسه في يومه وقتًا يختلف فيه إلى شيخ في تخصص شرعي كعلم الأصول أو علم المصطلح.
أما الأحكام الفقهية فلا تحتاج من الإمام إلا كثرة المراجعة حتى تظل مسائلها حية في وجدانه، وحتى يكون على استعداد دائم للإجابة عن أسئلة الناس التي تعرض لهم في شئون حياتهم اليومية، من دينية ودنيوية.
وينبغي أن يصبر نفسه للجلوس بين يدي العلماء ولا يتحرج من ذلك، وقديما قال العلماء: "من لا شيخ له فشيخه الشيطان".
وصدق الشاعر الحكيم القائل:
ومن لم يذق مر التعلم ساعةً تجرع ذل الجهل طول حياته
ومن أخلاق العلماء: صدقهم وصراحتهم وتضحيتهم وثباتهم على ما يرونه حقًّا.
من ينظر في تاريخ هذه الأمة المعطاء يرى أن العلم عند العلماء كان غاية رغبتهم ومنتهى رضاهم، وكانوا يجدون سعادتهم في مذاكرة العلم والبحث عن مسائله، وربما استغرق الرجل منهم في الطلب حتى ينسى نفسه بغير طعام وقتا طويلا ورغبة في طلب العلم.
وكان الإمام النووي يكتفي بالخبز والزيت حتى ظهر أثر ذلك في وجهه بقعًا سوداء، ولا يتقاضى راتبه من رئاسته لدار الحديث، ويجعله نفقةً على طلبة الدار، وكان يعيش من أجره، وكان تركه له أبوه في "نوى" وكانت تأخذه نوبات إغماء لكثرة ما يبذل من جهد في طلب العلم مع قلة الشيء، لكنه مع ذلك كان من أشد خلق الله ثباتًا على الحق ودفاعًا عنه، وكان من أعظم أخلاق الدعاة في هذا العصر صدقهم مع ربهم.
يروي البيهقي في كتابه "المحاسن والمساوئ" قال: دخل هشام بن عروة على المنصور فقال له المنصور: يا أبا المنذر: أتذكر حيث دخلت عليك أنا وأخي مع أبي الخلائف وأنت تشرب سويقًا بقصبة يراع، فلما خرجنا من عندك قال أبيّ: استوصوا بالشيخ خيرًا واعرفوا له قدره، فلا يزال في قومكم بقية ما بقي؟
قال: ما أثبت ذلك يا أمير المؤمنين، فلامه بعض أهله وقالوا: يذكرك أمير المؤمنين ما يمت به إليك، وتقول له لا أذكره؟ فقال: لم أذكره ولم يعودني الله في الصدق إلا خيرًا (8).
ومن أعظم مواقف الثبات على الحق هذه الصفحات الناصعات التي يسجلها التاريخ لرجال نصروا الله فنصرهم وأعزوا دينه فأعزهم، وأعلوا سلطانه في الأرض فأعلى أقدارهم وخلد ذكرهم، وهؤلاء الرجال الربانيون لم يخل منهم عصر ولا مصر، وإنما شاءت إرادة الله أن يوجدوا ليعز بهم الإسلام والمسلمين، فمنذ بدأت عهود القوة والفتح واستقرت أحوال الإسلام، واستبحر عمرانه، وتمكنت أركانه؛ رأينا للعلماء الفضل الأول في حراسة هذا الدين وإعزازه.
فمنذ كانت الدولة العباسية واشتهر خلفاؤها بالشدة والقوة وتعقب خصومهم من بني أمية، قام في وجوه هؤالء الخلفاء رجال من أهل العلم لولا وجودهم لهلك الخلفاء وضاع الإسلام، ومن هؤلاء العلماء الربانيين "ابن السماك"، و"ابن أبي داود"، و"الليث بن سعد", و"الأوزاعي"، و"مالك بن أنس"، و"أحمد بن حنبل"، وغيرهم.
وظلت جهود العلماء تمثل للسلاطين والأمراء صمام أمان، إذا نسوا ذكروهم وإذا ذكروا أعانوهم، وإذا رأوا فيهم اعوجاجا قوموهم، فكانوا بحق أمانًا لأمتهم ونصرًا لدينهم.
وكلما ذكرت الصدق في الحديث والقوة في الحق والصراحة في النصح والثبات على المبدأ أذكر العز بن عبد السلام، ولثقتي بأن مواقفه أضحت مشهورة معلومة فإني سأتجاوزه وأتحدث عن موقف لتلميذه تاج الدين بن الأعز (9) هذا التلميذ الذي اختاره الشيخ ليخلفه في القضاء، عندما طلب منه السلطان أن يولي من بعده أحد أولاده فقال: ليس أحد من ولدي يصلح للقضاء، فقال له السلطان: ومن تراه يصلح لذلك، قال تاج الدين عبد الوهاب ولقد صحت فراسة الشيخ في تلميذه فقد ضرب أروع الأمثلة في الاستعلاء عن الدنيا، والاستخفاف بأهلها من أهل الجاه والسلطان، ولم يتردد في أن يرد شهادة نائب السلطنة وهذا يعني الحكم عليه بالفسق، غير عابئ بتهديده أو وجل من وعيده.
------------
* الهوامش:
(1) موقع قرب مكة.
(2) انظر: أسد الغابة ص 357 – 358 ج3.
(3) معنى أدرك أسناننا؛ أي: ساوانا في العمر أو كان في مثل سننا. ما عسره منا أحد: أي ما صل إلى مستواه أحد منا.
(4) هو محدث مصر وصاحب كتاب الترغيب والترهيب.
(5) انظر حسن المحاضرة ج1 ص 127.
(6) هو المربي الفاضل والعالم الجليل الأستاذ: محمد عبد الباقي إسماعيل نائب مركز طلخا، وقد ترقى في وظائف التعليم حتى بلغ مديرًا عامًّا.
(7) تذكرة الحفاظ ج1 ص 182.
(8) المحاسن والمساوئ – البيهقي ج2 ص 64.
(9) هو قاضي القضاة الإمام عبد الوهاب بن خلف بن محمد بن بدر العلامي ينسب إلى جده لأمه الصاحب جمال الدين بن شكر المعروف بالأعز توفي سنة 665 هجرية.