بقلم د. كامليا حلمي

مقدمة:

أطلقت هيئة الأمم المتحدة في اجتماع الجمعية العمومية المنعقد في نيويورك في سبتمبر2015م، بحضور رؤساء الدول الأعضاء، وثيقة عالمية محورية أطلق عليها عنوان «تحويل عالمنا: خطة 2030 للتنمية المستدامة Transforming our world: the 2030 Agenda for Sustainable Developmen». ومنذ ذلك التاريخ، قامت الحكومات المختلفة بوضع سياساتها واستراتيجياتها التنموية بناء على تلك الوثيقة، أطلقت عليها الدول «رؤية 2030 للتنمية المستدامة»، والتي ترتب عليها إحداث تغييرات شاملة في القوانين والتشريعات الخاصة بالأسرة، إضافة إلى تغيير مناهج التعليم، وبرامج الإعلام لتتوافق جميعها مع تلك الوثيقة.

وقد اشتملت تلك الوثيقة على عدد من المضامين التي شكلت تهديدًا واضحًا لهوية الأسرة وتماسكها، نوجزها فيما يلي:

 

أولاً: تشجيع العلاقات الجنسية غير المشروعة من خلال مطالبة الحكومات "بضمان حصول الجميع على خدمات رعاية الصحة الجنسية والإنجابية، بما في ذلك خدمات ومعلومات تنظيم الأسرة والتوعية الخاصة به، وإدماج الصحة الإنجابية في الإستراتيجيات والبرامج الوطنية بحلول عام 2030"[1]. وتعني كلمة "الجميع": كل الأفراد من كل الأعمار، شاملة المراهقين والشباب غير المتزوجين.

 

كما تبنت الوثيقة مخرجات المؤتمرات التحضيرية السابقة لها، ومن أخطرها: «برنامج عمل القاهرة للسكان ما بعد 2014»، والذي استنكر وجود قوانين جنائية في بعض الدول تجرم الزنا والشذوذ والعمل في الدعارة واستخدام الإجهاض كوسيلة للتخلص من الحمل غير المرغوب فيه[2].

 

ثانيًا: محاربة الزواج الشرعي المبكر :

 

لم يحرم الإسلام أو ينهى عن الزواج بعد بلوغ السن الشرعي، بل شجع على الزواج فور توافر شروطه، وذلك في الحديث الشريف: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ"[3]. فليس للاتفاقيات ولا غيرها أن تحَرِّم أو تجَرِّم شيئًا أحله الإسلام.  ولكن "خطة 2030 للتنمية المستدامة"، حاربت بقوة الزواج الشرعي المبكر، وطالبت بالقضاء عليه، واعتبرته من «الممارسات الضارة»[4]، وذلك في نفس الوقت الذي شجعت فيه العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج كما أشرنا سابقًا.

 

ثالثًا: الإصرار على إلغاء كافة الفوارق بين الرجل والمرأة في الأدوار وفي القوانين والتشريعات:

 

معتبرة أيًا من تلك الفوارق «تمييزًا ضد المرأة» يجب إزالته وتغيير القوانين من أجل تأكيد التساوي المطلق بين الرجل والمرأة[5]. وبالطبع يترتب على ذلك إلغاء أهم عوامل الاستقرار الأسري، وهو التكامل والتمايز في الأدوار والمهام بين الزوجين، مثل تحمل الزوج مسؤولية القوامة كاملة، وتحمل الزوجة مسئولية رعاية الزوج والأبناء، وتشاركهما معًا في التربية، بما يضمن نشوء أجيال قوية تحمل على عاتقها مسئولية بناء الأوطان وحمايتها. في حين يقضي التساوي التام على ذلك التكامل ويعزز الندية والتنافس بين الزوجين، وهو مايهدد الأسرة بالتفكك والفشل.

 

رابعًا: إباحة الشذوذ الجنسي، وتطبيع تلك الفاحشة داخل المجتمع: وذلك من خلال بناء الوثيقة على «المنظور الجندري»، علاوة على تخصيص هدف كامل من أهداف التنمية المستدامة لمساواة الجندر[6]. وحيث يقصد بـ«الجندر» «النوع»[7]، فمساواة الجندر تعني مساواة الأنواع، أي أن يتساوى الرجل والمرأة، ويتساوى الشواذ مع الأسوياء مساواة تامة، وأن يعتبر التفريق بين أي منها «تمييزا قائما على الجندر» يجب القضاء عليه.

 

وتأكيدًا على تلك المفاهيم، تصدر هيئة الأمم المتحدة للمرأة UN-WOMEN بيانًا، أثناء احتفالها بيوم «القضاء على رهاب الشذوذ الجنسي» ينص على أن: "خطة التنمية المستدامة لعام 2030 تشدد على عدم التمييز بين جميع الناس، بغض النظر عن ميولهم الجنسية وهويتهم الجندرية".[8] ووفقًا لتعريف «الجندر» يصبح الشذوذ الجنسي حقًا من حقوق الإنسان، لا يجوز إنكاره.

 

خامسًا: الإلزامية في التطبيق الكامل لـ«خطة 2030 للتنمية المستدامة»:

 

يفترض في «خطة 2030 للتنمية المستدامة» ألا تكون مُلزِمة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة؛ ولكنها فَرَضت على "كل حكومة أن تقرر سبل إدماج هذه الغايات.. ضمن عمليات التخطيط والسياسات والاستراتيجيات الوطنية"[9]. ومن ثم، لوحظ تأثيرها العميق على القوانين والسياسات في جميع أنحاء العالم، حيث تنطلق تلك التغييرات في معظمها من «رؤية 2030» التي وضعتها الحكومات بناء على تلك الوثيقة.

 

ولم تترك الوثيقة أي مجال للاجتزاء أو الانتقاء أو تطبيق بعض مكوناتها دون الآخر، فقد نصت ديباجتها على أن أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر هي: "أهداف وغايات متكاملة غير قابلة للتجزئة، تحقق التوازن بين الأبعاد الثلاثة للتنمية المستدامة: البعد الاقتصادي والبعد الاجتماعي والبعد البيئي"[10]. كما نصت على أن "هذه الخطة لم يسبق لها مثيل من حيث النطاق والأهمية.. وهي متكاملة غير قابلة للتجزئة"[11].

 

ولضمان شمول كل الأفراد على الكرة الأرضية ضمن تلك الخطة، رفعت شعارًا لها هو: "نتعهد بألا يخلف الركب أحدًا وراءه  no one will be left behind.. وسوف نسعى جاهدين إلى الوصول أولاً إلى من هم أشد تخلفًا عن الركب"[12]. وبالتالي بحلول عام 2030 ستكون كل شعوب الأرض قد امتثلت لتلك الخطة. ولضمان ذلك، يتكرر موضوع «المساءلة» في الخطة، رغم أن «المساءلة» ليست من صلاحيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة (المسئول عن تلك الخطة)، ولكن المحاولات تظل مستمرة للضغط على الحكومات لتطبيقها تطبيقًا كاملاً.

 

سادسًا: التدرج والتحايل على المعارضة:

 

لكي يسهل التوافق العالمي عليها، تضمنت الوثيقة بعض العبارات التي تفيد -شكليًا- احترام خصوصيات الدول، مثل النص على: "حماية الحريات الأساسية وفقًا للتشريعات الوطنية، والاتفاقيات الدولية"[13]. ولكن هذا النص يتناقض مع بعضه الآخر؛ فالحريات الأساسية كلمة شديدة المطاطية، تشمل «الحريات الجنسية»، وحرية اختيار «الهوية الجندرية» و«التوجه الجنسي»، وهي أمور تتصادم في كثير من الدول مع تشريعاتها الوطنية! وفي ظل ذلك التناقض الشديد يستحيل الجمع بين «الحريات الأساسية» من المنظور الدولي و«التشريعات الوطنية» في إطار واحد، إلا إذا توحدا وتوافقا. فهل ستغير الدول المحافظة قوانينها الوطنية لتتفق مع المواثيق الدولية؟ أم ستقرر هيئة الأمم المتحدة أن تحترم التنوع القيمي والثقافي لشعوب الأرض، وتترك للحكومات والشعوب حرية صياغة قوانينها الوطنية؟"[14].

 

وبرغم كل الضغوط التي تمارسها الأمم المتحدة إلا أنها تواجه معارضة شديدة من الشعوب لأجندتها الخاصة بحقوق الإنسان، "ولا يمكن الادعاء أن تلك المواثيق تطرح حلولاً لمشاكل المرأة في كل أنحاء العالم، بل هي اتفاقيات مبنية على الفكر الغربي المادي العلماني، الذي يهمش دور الدين في المجتمع، ولا يراعي التباين الثقافي الواسع بين المجتمعات، ولا اختلاف أوضاع المرأة ومشكلاتها من مجتمع إلى آخر، ولا اختلاف الموروث التاريخي والديني والوضع الجغرافي والاقتصادي، إذ أن ما يصلح لحل مشاكل المرأة في الدول المتقدمة قد لا يصلح بالضرورة لحل مشاكلها في الدول الأخرى، إضافة إلى أن المشكلات التي نجمت عن القيم الغربية تحمل الشك في صلاحيتها لتكون نموذجًا يحتذى به على نطاق العالم"[15].

 

وبناء على ما سبق، نعلن موقفًا واضحًا وصريحًا رافضًا لتلك الوثيقة (خطة 2030 للتنمية المستدامة)، وندعو الهيئات الرسمية وغير الرسمية إلى عدم التعاطي معها. كما ندعو الهيئات التي قطعت خطوات في تطبيقها إلى تقييم مواقفها والتوقف عن التطبيق؛ لما في ذلك من خطر بائن على الأسرة والقيم والأخلاق في المجتمعات.

 

[1]- الأمم المتحدة، الجمعية العامة، تحويل عالمنا: خطة التنمية المستدامة لعام 2030، A/RES/70/1، سبتمبر 2015، الهدف (3-7).

 

[2]- الأمم المتحدة، المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان، هولندا، يوليو 2013، تقرير مؤتمر برنامج عمل القاهرة للسكان ما بعد 2014، ص5، ص6. (بتصرف)

 

[3]- صحيح البخاري.

 

[4]- الأمم المتحدة، الجمعية العامة، تحويل عالمنا: خطة التنمية المستدامة لعام 2030، مرجع سابق، الهدف (5-3).

 

[5]- المرجع السابق، الهدف (10-3) (بتصرف).

 

[6]- المرجع السابق، الهدف (5) (بتصرف).

 

[7]- عرفت مستشارة الأمين العام لشئون الجندر «الجندر» بأنه: "يشير إلى الخصائص والفرص الاجتماعية المرتبطة بالذكورة والأنوثة، والعلاقات بين الرجال والنساء، وبين الفتيات والفتيان، وكذلك بين النساء بعضهم البعض، وبين الرجال بعضهم البعض. هذه السمات والفرص والعلاقات مبنية اجتماعيًّا، وتُعلَّم من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية، فهي قابلة للتغيير وفقًا للسياق والوقت. (انظر: UN WOMEN, Concepts and definitions.).

 

[8]- UN Women Statement for International Day Against Homophobia, Trans phobia and Biphobia, May 17, 2018,

 

[9]- الأمم المتحدة، الجمعية العامة، تحويل عالمنا: خطة التنمية المستدامة لعام 2030، مرجع سابق، الفقرة 55.

 

[10]- المرجع السابق، الديباجة.

 

[11]- المرجع السابق، الفقرة (5).

 

[12]- المرجع السابق، الفقرة (4).

 

[13]- المرجع السابق، الهدف (16-10)

 

[14]- جريدة السبيل الاليكترونية، جمعية العفاف تحذر من بعض بنود وثيقة «تحويل عالمنا: خطة 2030 للتنمية المستدامة، 19/5/ 2015م.

 

[15]- عواطف عبد الماجد، موقف الإسلام من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ص5، نقلاً عن: نهى القاطرجي، المرأة في منظومة الأمم المتحدة.. رؤية إسلامية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2006، ص 180.