https://ikhwanonline.com/article/266140
الثلاثاء ١٣ محرّم ١٤٤٧ هـ - 8 يوليو 2025 م - الساعة 02:04 م
إخوان أونلاين - الموقع الرسمي لجماعة الإخوان المسلمون
زاد الداعية

مشاهد من الهجرة

مشاهد من الهجرة
الجمعة 27 يونيو 2025 02:19 م
قلم: أحمد أحمد جاد

معنى الهجرة:

"الهجرة: الترك، والهجرة إلى الشيء: الانتقال إليه.

والهجرة على وجهين: الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في الهجرة إلى الحبشة، ومن مكة إلى المدينة؛ والثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين". (فتح الباري: 1/23).

 

والهجرة عهد فاصل بين عهدين: عهد الجاهلية والاضطهاد والأذى والتعذيب والصبر والتحمل- وهو مرحلة بناء الرجال- وعهد العزة وتكوين الدولة وتحقيق المنهج الإسلامي.

 

والهجرة لا تعني ترك الأرض إلى دولة تعطي مالاً أكثر، وإنما تعني ترك ديار الظلم في سبيل نشر الدعوة والتمكين لها في الأرض.

 

- ومن معاني الهجرة: أن يهاجر من كثر فيهم القتل أرض الفتنة واختلاط الأمور إلى حيث العبادة والطاعة؛ لأن الناس تنشغل بالفتن ويغفلون عن العبادة، ففي الحديث "العبادة في الهرْج كالهجرة إليّ" (مسلم: 2948، والترمذي: 2201 حسن صحيح، وابن ماجه وأحمد)، وفي الحديث أيضًا ".. والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". (البخاري: 10، والنسائى: 5006)

و"الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة، فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة: الفرار بالدين من الفتن". (فتح الباري: 1/70).

 

أسباب الهجرة

 وأسباب الهجرة كثيرة منها ما يلي باختصار:

1- الهجرة بسبب مخافة الفتنة. فقد ظل المسلمون حوالي 13 سنة يتعرضون لصنوف من الأذى والتعذيب والاضطهاد والحصار والوقوف أمام نشر الدعوة، وهذا يعتبر فتنة أيضًا للكافرين الذين يقولون: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا، ومن هنا كان دعاء المؤمنين: ﴿رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (الممتحنة: من الآية 5) "قال مجاهد: معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا". (تفسير القرآن العظيم: 8/112).

 

2- إيمان المسلمين بربهم، فالصراع والعداء بين الإيمان والكفر موجود على مرّ الزمن، وقد أخرج المشركون المسلمين من ديارهم بسبب إيمانهم ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ (الممتحنة: من الآية1)، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾ (الحج).

 

3- ترك العقائد الفاسدة وهجر الباطل الذي يستخف بعقول المستضعفين ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ (الزخرف: من الآية 54).

 

4- تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وصده عن سبيل الله، ففي الحديث "... قوم كذبوا الرسول وأخرجوه" (البخاري: 3901).

 

5- وكانت الهجرة طاعة ومحبة لله ورسوله، ولولا هذا ما هاجروا وتركوا كل ما يملكون.

 

6- وكانت الهجرة لنصرة هذا الدين بالجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ﴿وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ (الحشر: من الآية 8).

 

7- إقامة الدولة حيث الحرية في نشر الدعوة وإقامة شرع الله والخلافة.

 

والهجرة لم تكن فرارًا بمعنى الهروب وإنما فرارًا بدينهم إلى الله ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ (الذاريات: من الآية 50)، وذلك بدليل أن بعض الصحابة هاجروا علانية منهم عمر وحمزة وصهيب.

 

* مقدمات الهجرة: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعله يجد من يحميه وينصره، أو مكانًا يأمن فيه على دعوته، وكان للطائف موقع إستراتيجي، وكان كثير من أهل مكة يقضون فصل الصيف فيها، فدعاهم فلم يستجيبوا، وبالغوا في سوء الأدب معه، فقال لهم: "اكتموا عني". فلم يفعلوا، بل سلطوا عليه السفهاء والعبيد يرمونه بالحجارة حتى ألجئوه إلى ظل شجرة فدعا: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس".. ثم ينزل ملك الجبال فيقول: "إن شئت أطبق عليهم الأخشبين". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا". (البخاري: 3231).

 

وبعد رجوعه من الطائف لم ييأس بل بدأ يعرض نفسه على القبائل، في المواسم يشرح لهم الإسلام ويطلب الإيواء والنصرة، وكان يقول: "هل من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي؛ فإن قريشًا منعوني أن أبلغ رسالة ربي"، وكان أبو لهب من ورائه يقول للناس: (لا تسمعوا منه فإنه كذاب).

 

- الهجرة إلى الحبشة: هاجر عثمان ورقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما هاجر جعفر بن أبى طالب وبعض الصحابة رضي الله عنهم إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وقد أكرمهم النجاشي، وسمع من جعفر أسباب هجرتهم إليه، كما سمع منه كلام الله، فقال: والله إن هذا لمن المشكاة التي خرج منها أمر موسى. أي أن القرآن والتوراة كلام الله تعالى، وإنهما من مصدر واحد.

 

ثم أرسل مصعب بن عمير إلى المدينة، وهناك استطاع أن ينشر الإسلام فيها حتى كانت بيعة العقبة الثانية التي كانت على حماية النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد معه. ثم هاجر بعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق إلى المدينة.

 

- الرسول صلى الله عليه وسلم أُخْرِجَ ولم يَخْرج: قال تعالى ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (التوبة: من الآية 40)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الدعوة لم يكن يظن أن قومه سيخرجونه! فعندما كان في غار حراء ونزل عليه الوحي وخشي على نفسه وقال لخديجة: "زملوني زملوني.. ". ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان يكتب الإنجيل.. وكان شيخًا كبيرًا قد عمي.. فلما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر قال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، يا ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قومك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أومُخْرجيّ هم؟" قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. (البخاري- بدء الوحي: 3، ومسلم- الإيمان: 160). والناموس: جبريل، وجذعًا: شابًّا قويًّا حتى أبالغ في نصرك.

 

ويظهر من كلام ورقة أنهم سيخرجونه، وأن هذه سنة الأنبياء من قبل.

 

والرسول أخرج من مكة وقد وعده الله بالعودة إليها: قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ (القصص: من الآية 85)، أي إلى مكة. (البخاري: 4773) وفي رواية عن ابن عباس: لرادك إلى مكة كما أخرجت منها. (ابن كثير في التفسير) وفي الحديث عن عبد الله الزهري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا على الحَزْورَة فقال: "إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا إني أُخرجت ما خرجت". (الترمذي: 3925 حسن صحيح، وابن ماجه: 3108، والدرامي: 2510) والحَزْورَة: التل الصغير، وهو مكان بمكة.

 

مشهد ومشهد

في الهجرة نرى مشهدين

أ- المهاجرون الذين أخرجهم المشركون، فهؤلاء يكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم جناته، قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 195).

 

ب- وفي المقابل نرى مشهد المشركين الذين آذوا المسلمين وأخرجوهم من ديارهم، فهؤلاء يعاقبهم الله بالهلاك والدمار قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)﴾ (إبراهيم)، وقال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13)﴾ (محمد)، وقال: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77)﴾ (الإسراء)، فسنة الله جارية في إهلاك الظالمين.

 

هجرة وهجرة

 

 
ونرى مشهدين صورتهما واحدة: صورة المهاجر في سبيل الله، وصورة المهاجر للكسب المادي والتزوج بأجنبية في بلد الغربة ليأخذ الجنسية ويستقر هناك.. وفي الحديث: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (مسلم- الإمارة: 1907، والبخاري- بدء الوحي: 1) وفي الحديث: "من كانت الدنيا همه فرق الله شمله وأمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له، ومن كانت الآخرة همه- أو نيته- جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة" (ابن ماجه)

 

فالأعمال التي صورتها واحدة يختلف صلاحها وفسادها باختلاف النية، فمن هاجر حبًّا لله ورسوله ورغبة في إظهار دينه بعد أن عجز عن ذلك في دار الشرك؛ فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله، ومن هاجر لأمر من أمور الدنيا التي لا تنحصر، فهو المهاجر للدنيا.

 

ونية الهجرة لا بد أن تكون خالصة لله تعالى لا لشيء معه، وهذا مثل الجهاد، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل يريد الجهاد وهو يريد عرضًا من عرض الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أجر له"، فأعاد عليه ثلاثًا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أجر له" (أبو داود)، وفي الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" (مسلم) وفي رواية: "فأنا بريء منه وهو للذي أشرك".. فالله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا له، يبتغى به وجهه وحده.

 

مشاهد من معية الله لرسوله

أ‌- معية الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حين تآمرت قريش على قتله صلى الله عليه وسلم: فقد اجتمع أشراف قريش في دار الندوة لينظروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: احبسوه.. حتى يهلك، فقال الشيطان في صورة شيخ نجدي: ما هذا برأي.. فقال قائل: أخرجوه.. فقال الشيطان: ما هذا برأي؛ فإنه سيجمع عليكم الناس فيقاتلوكم. فقال أبو جهل: نأخذ من كل قبيلة غلامًا شابًّا ثم يُعطى لكل شاب سيف، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل، فلا أظن أن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها؛ فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا الدية واسترحنا وقطعنا عنا أذاه.. لكن الله كان معه، وكيف يترك عبده وخليله لهؤلاء. فأرسل الله إليه جبريل عليه السلام أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكرهم وأذن له بالخروج, فذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)﴾ (الأنفال)، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب وأمره أن يبيت على فراشه، ثم خرج على القوم وهم على بابه، فجعل يذر التراب عليهم، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ (يس: من الآية 9) وفي رواية: فأخذ قبضة من تراب فحصبهم بها وقال: "شاهت الوجوه"، فما أصاب رجلاً منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا.

 

ب‌-  معية الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار: وقد جاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بنسج العنكبوت على باب الغار! وكان النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا يصلي وأبو بكر يترقب.. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "هؤلاء قومك يطلبونك، أما والله ما على نفسي أحزن، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، لا تحزن إن الله معنا.. قلت للنبي صلى الله عليه وسلم-القائل أبو بكر-: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا. فقال يا أبا بكر ما ظنك باثتين الله ثالثهما" (البخاري: 4663، والترمذي)

 

إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معه جيش ولا سلاح ولم يكن هناك من ينصره، لكن الله أنزل السكينة عليه وأيده ونصره ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ (التوبة: من الآية 40).

 

ج - معية الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في الطريق إلى المدينة: فقد أعلنت قريش عن جائزة مائة ناقة لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم حيًّا أو ميتًا، و(سمع سراقة بن مالك بذلك فأجهد نفسه، وتعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على فرسه، فقال أبو بكر: "يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا"، فقال: "لا تحزن إن الله معنا"، حتى إذا كان بينه وبينهما قدر رمح أو رمحين قال أبو بكر: "يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا" وبكى، فقال: "لِم تبكي؟" فقال: "أما والله ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك"، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم أكفناه بما شئت"، فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد- أي صلب-! فقال سراقة: يا محمد، ادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب). (حياة الصحابة: 1/340) فهذا سراقة أصبح يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وأمسى يدافع عنه! ومثل سراقة الكثير يبيع مبادءه وضميره وشرفه وعرضه ويستخدم كل مواهبه في سبيل جائزة، وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

 

فهذه قريش، كذبت رسول ربها ومكرت به، وأجمعت على قتله وحاصرته، لكن الله معه، يحفظه وينصره وينجيه، ويمكن له في الأرض، وكذلك يفعل بالمؤمنين: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55)﴾ (النور)، والله مع الصابرين، فإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟

 

مشاهد من التضحية في الهجرة

لا شك أن الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وتركوا ديارهم وأموالهم وتحملوا مشاق الهجرة وتعرضوا للأذى قد قدموا الكثير من التضحيات، واكتفي بذكر الآتي:

أ- مشهد هجرة صهيب: لما أراد صهيب أن يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم تبعه نفر من قريش مشركون، فنزل فانتثل كنانته- أي استخرج ما فيها من سهام- فقال: قد علمتم يا معشر قريش أنى أرماكم رجلاً بسهم، وايم الله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم شأنكم بعد ذلك، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وتخلوا سبيلي، قالوا: نعم.. فأنزل الله تعالى على رسوله ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)﴾ (البقرة)، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صهيبًا قال: "ربح البيع يا أبا يحيى" مرتين، وفي رواية: قالوا له: يا صهيب قد قدمت إلينا ولا مال لك وتخرج أنت ومالك! والله لا يكون ذلك أبدًا. (راجع تفسير آية البقرة، وحياة الصحابة 1/ 358).

 

ب- مشهد هجرة آل سلمة: قالت أم سلمة: خرجت مع أبي سلمة وابني سلمة في حجري، فلما رأته رجال بني المغيرة.. نزعوا خطام البعير من يده، وأخذوني منه، وعند ذلك غضب بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها.. فتجاذبوا ابني بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.. قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس في الأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبًا من ذلك، حتى رحمني بنو المغيرة.. ثم أخذت ولدها لكي تلحق بزوجها.. فكانت أم سلمة تقول: ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة..

فتأمل كيف عانت أم سلمة وجاهدت وصبرت على ما أصابها وهي امرأة.

 

ج- وعلي بن أبي طالب يبيت على فراش النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوقع أن تهجم عليه قريش فتقتله.

 

هل تنقطع الهجرة؟

في الحديث: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا". (البخاري: 2825، 3080) وفي الحديث أيضًا: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" (أبو داود: 2479، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 6/ 186، والدارمي: 2513 وأحمد).. وقد اختلف الفقهاء في الجمع بينهما، فقال الخطابي في المعالم: "كانت الهجرة في أول الإسلام فرضًا ثم صارت مندوبة، وذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)﴾ (النساء). فالهجرة كانت في أول الإسلام فرضًا وذلك حين اشتد أذى المشركين على المسلمين بمكة وانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمروا بالانتقال إلى حضرته ليكونوا معه فيتعاونوا ويتظاهروا إن أحزبهم أمر، وليتعلموا منه أمر دينهم، فلما فتحت مكة ارتفع وجوب الهجرة، وعاد الأمر فيها إلى الندب والاستحباب، فالهجرة المنقطعة هي الفرض، والباقية هي الندب.. ويحتمل بأن يكون: "لا هجرة بعد الفتح.." أي من مكة إلى المدينة وقوله "لا تنقطع الهجرة.." أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام". (عون المعبود: 7/ 156).

 

وفي الهجرة مشاهد إيمانية وتربوية كثيرة، ونكتفي بما ذكرنا، ونسأل الله أن يتقبل منا أعمالنا ويغفر لنا ذنوبنا وينصرنا على أعدائنا إنه نعم المولى ونعم النصير.