حسن البنا


﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11)

حين أنزل الله القرآن على نبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- وقرأه هذا النبي الكريم على الأمة العربية حينذاك، عمل في نفوسهم عملَ السحر، وبلغ أثرُه أعماق هذه القلوب، وتغلغل في حنايا الضلوع، وتمكَّن من مكامن الأرواح، وبدَّل الله به هذه الأمة خلقًا آخر، فكان البَونُ بعيدًا، والفارقُ عظيمًا بين الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها.


ولقد أثر القرآن في نفوس المشركين والمؤمنين على السواء، ولكنَّ أثرَه في نفوس المشركين كان أثرًا وقتيًّا سلبيًّا، وكانوا يفرُّون منه، ويضعون الحوائل فيما بينهم وبينه، ويقول بعضهم لبعض: ﴿لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ (فصلت: من الآية 26).


أما المؤمنون فكانوا ﴿يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ﴾ (الزمر: من الآية 18)، فكان أثر القرآن في نفوسهم دائمًا إيجابيًّا، بدَّلهم وغيَّرهم، وحوَّلهم من حال إلى حال، ودفعهم إلى كرائم الخصال وجلائل الأعمال.. ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَّشَاءُ..﴾ (الزمر: من الآية 23).


وها هو القرآن الكريم يُتلَى علينا ويُقرأ بين ظهرانينا، فهل تغيَّرت به نفوسُنا وانطبعت عليه أخلاقنا، وفعل في قلوبنا كما كان يفعل في قلوب أسلافنا؟!


لا أيها الإخوان.. لقد صرنا نقرأ القرآن قراءةً آليَّةً صرفةً، كلمات تتردَّد، ونغمات تتعدَّد، ثم لا شيء إلا هذا، أما فيض القرآن وروحانيته، وهذا السيال الدافق من التأثير القويِّ الفعَّال، فمن بيننا وبينه حجاب، ولهذا لم نكن صورةً من النسخة الأولى التي تأثَّرت بالقرآن وتبدَّلت نفوسُها به، وها نحن الآن نريد أن نقتديَ بهذا السلف، ونريد أن تنهضَ من جديد في نفوس المسلمين وشعوب المسلمين أمةُ القرآن ودولةُ القرآن.


وها هو شهر القرآن، شهر رمضان المبارك يظلنا بروحانيته، فهل لنا أن نتصلَ بالقرآن صلةً حقيقيةً، تطهِّر من أرواحنا، وتغيِّر من نفوسنا؟!


إننا نُؤثِر الدنيا ونحبها من كل قلوبنا، فهل لنا أن نستمع إلى قول الله العلي الكبير ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24)، وقوله تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (الأعلى: 16- 17)، وقوله تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ﴾ (النحل: من الآية 96) فنؤثر ما عند الله على ما عند أنفسنا، ونحرص على مرضاته وجزيل مثوبته، ولا نعبأ بما يصيبنا في سبيل الحق الذي ندبنا إليه، من أذى في النفوس أو الأموال..، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ولن يصيبنا إلا الخير بإذن الله ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 174-175).


وإننا ننظر إلى الأسباب نظرةً هي كل شيء، ونهمل في حسابنا إرادة العلي الكبير، ومناصرته لأوليائه من حيث لا يحتسبون، وتأييده إياهم بما يعلم الناس وما لا يعلمون، والله تعالى يقول: ﴿وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شيء قَدْرًا﴾ (الطلاق: 2-3) ويقول: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ في الأَرْضِ﴾ (القصص: 5-6) إلى غير ذلك من الآيات التي تكل الأمر كله لله من قبل ومن بعد.


فهل لنا أن تتغيَّر نفوسُنا بهذا الوحي الرباني، والوعد القرآني، والتنزيل السماوي، فنكون بما في يد الله أوثقَ منا بما في يد أنفسنا؟!


إننا نغضب لأوهى الأسباب، ونتقاطع ونتدابر بسبب وبغير سبب، وتفرِّق بيننا الآراء والأهواء والشهوات والمنازع والدنيا، والعرض الزائل، والوهم، والأمنية الباطلة، والغاية الفاشلة الزائلة، والله يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران: من الآية 103) ويقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية 10)، ويقول: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (التوبة: من الآية 71).


فهل لنا أن نتأثر بهذا الخطاب الكريم؛ فننسى الضغائن والأحقاد، ونطهِّر النفوس والصدور، ونجتمع على كلمة الله، ونكون إخوانًا لذاته، متحابِّين بروحه، متعاونين على مرضاته؛ إن الله يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ في صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (المؤمنون: 1-11).


فأين نحن من هذه الأوصاف الكريمة والسمات الفاضلة التي وسم الله بها عباده المؤمنين؟!

 

الخشوع في الصلاة والمحافظة عليها، والإعراض عن اللغو في القول، والعمل على تجنب ما لا يفيد ولا ينفع، وكل صغير وكبير مستطر، وأداء الزكاة زكاة الفطر وزكاة المال؛ إبراءً للذمة، وتطهيرًا للثروة، ومنعًا للفتنة، وبرًّا للفقراء والمساكين.


وحفظ الفروج وصيانتها عن غير ما أحلَّ الله لها، وحفظ ما يتصل بها من العين والأذن والفم والأنف واليد والرجل، وقديمًا قال الشاعر العربي (معن بن أوس المزني):


لعمرك ما أهويت كفي لريبة            ولا حملتني نحو فاحشة رجلي

ولا قادني سمعي ولا بصري لها        ولا دلَّني رأيي عليها ولا عقلي

حفظ الفروج وما إليها؛ سموًّا بالعاطفة، وعلوًّا بالروح، وتنزيهًا للنفس وصيانةً للعرض، وصرعًا للشيطان، وإرضاءً للرحمن، وأداءُ الأمانة والوفاء بالعهد أداءً للحق، واعتدادًا بالنفس، وتوفيرًا للثقة، وإقامةً لميزان التعامل والتعاون بين الناس.


أين نحن الآن من هذه الأوصاف القرآنية التي أضفاها الإسلام على أبنائه من المؤمنين الصادقين، والتي تخلَّق بها سلفنا، فكانوا خير أمة أخرجت للناس؟!


هذه نماذج من تعاليم القرآن التي طبع بها نفوس أسلافنا فانعكست في مرآة أخلاقهم، وأضاءت أشعة نورانية للناس، وهَدَتهم وهَدَت بهم سواء السبيل؛ فهل تتغير نفوسنا فتتغير أحوالنا؟!

اللهم حقِّق الرجاء وأجب النداء.. آمين.

--------

* إعداد إسماعيل التركي- مدير البصائر للدراسات والبحوث.

* مجلة الإخوان المسلمين النصف شهرية، العدد (21)، السنة الأولى، 18 رمضان 1362ﻫ/ 18 سبتمبر 1943م، ص (3- 4).