حسن البنا

في ليلة من ليالي رمضان العظيم، كان الإنسان الكامل "محمد بن عبد الله" العربي الهاشمي يتحنَّث في غار حراء على عادته، ويطالع ملكوت السموات والأرض، مغمورًا بجمال الكون، مأخوذًا بعظمة المكون، وإذا بالروح الأمين جبريل يتنزَّل عليه، ويوحِي بإذن الله إليه ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الذي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1-5) فتكون تلك الآيات البينات فاتحةَ عهدٍ جديدٍ في تاريخ الإنسانية، وعنوانَ كتابٍ جديدٍ، يحمل النورَ والروح، والحياة والسلام والأمن للناس جميعًا، وبشائر الفجر المشرق بسنا الحق يتبلَّج؛ فتنجاب بضوئه ظلمات الباطل في كل مكان.

 

لقد قدم رمضان هذا للناس "نبيًّا وكتابًا" قامت عليهما أعظم نهضة إنسانية عرفها الوجود، وتمَّت بهما أضخم رسالة رأتها الدنيا، فكان النبي محمدًا- صلى الله عليه وسلم- وكان الكتاب هو القرآن الكريم، وكانت الرسالة إنشاءَ دين، وإحياءَ أمة، وإقامةَ دولة، مهمَّتُها في الوجود أن توحِّد الوجود تحت لواء المبادئ العليا، والمثل السامية، والفضائل الإنسانية الخالدة ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ﴾ (إبراهيم: 1-2).

 

ومضى النبي- صلى الله عليه وسلم- قدُمًا يبلِّغ رسالته ويتلو على الناس كتابه، ودانت الجزيرة العربية، واندكَّ سلطان الكسروية! وتقلص ظل القيصرية، ورفرف لواء المبادئ القرآنية الجديدة، على ملك شامخ يمتد من حدود الصين إلى الدار البيضاء، ومن قلب فرنسا إلى مجاهل إفريقية، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.

 

ثم ماذا؟ ثم دالت تلك الدولة، وتقلَّص هذا الظلُّ الوارف الممدود، بإهمالِ تعاليمِ الإسلام، وتنافسِ أهله على الملك والدنيا، وحسنِ ظنِّهم بالأعداء وبالأيام، وتأخرِهم عن الأعصار والأزمان، وجهلِهم بمقتضيات تغيرها وتطورِها، فنُسِي الدين، ونامت الأمة، وتفككت الدولة، وتفرق أمرها أيدي سبأ، وظن الناس أن قد قُضي الأمر، وطُوي هذا المجد أبد الدهر، وقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ﴿مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا﴾ (الأحزاب: من الآية 12).

 

ولكن الله العلي الكبير رب الرسالة والقرآن تكفَّل بحفظها ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: من الآية 9) ووعد بالدفاع عن أهلها ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الحج: من الآية 38).

 

وذكر أن ذلك من سنته في خلقه ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (يوسف: 110) وأبان عن الطريق في ذلك، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (المائدة: 54).

 

والآن ها هو رمضان، يطلع على الناس من جديد، ويبدو هلاله المشرق الجميل، ويبادر المسلمون في أقطار الأرض إلى فريضة الصوم لرؤيته، طاعةً لله العزيز الحميد، فهل يشعرون مع هذا الهلال بمعنى التجديد، وهل يطالعهم هلال رمضان الجديد بعهد جديد؟!

 

إن بين يدي المسلمين في أقطار الأرض الآن فريضةً لا تعوَّض، فقد تهدَّمت قواعد المدنيات والنظم، واضطربت أسس الحياة الإنسانية في كل مكان، وراجت سوق الدعوة إلى مبادئ جديدة وآراء جديدة وتهيَّأت الدنيا كلها لقبول ما يُعرَض عليها من ذلك، وأخوف ما يخافه المصلحون أن تخطئ الإنسانية الاختيارَ، وأن تبهرها المظاهر الخالبة، فلا تبصر الحقائق الخالدة، فتسوء العقبى، وينتكس الناس من جديد، وتكون الطامة الكبرى على البشر جميعًا.

 

ويستطيع المسلمون أن يعملوا في هذا الوقت لأنفسهم وللناس معهم عملاً مجديًا نافعًا، بل لعله عمل منقذ حاسم، إذا تشجَّعوا فطرحوا اليأس والوهم، وانتهزوا الفرصة السانحة، فعادوا إلى القرآن الكريم، يجدِّدون به دنيا، ويجيبون به أمةً ويقيمون به دولةً.

 

لقد شهد المسلمون أممًا عظيمةً حديثةً، تنهض من كبوتها، وتنفض عنها رواسب القرون الطويلة، والأجيال المتعاقبة، وتحيا حياةً جديدةً على أساس رجل وكتاب.

 

وأمام المسلمين الكتاب الرباني يذكِّرهم به شهر رمضان، وأمام المسلمين- كذلك- سيرة الإنسان الكامل الذي أنقذ الله به الدنيا وهو سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- وأمام المسلمين كذلك "الإخوان المسلمون" بدعوتهم إلى الكتاب، وإلى سيرة رسول هذا الكتاب، فلا عذر لأحد بعد اليوم.

 

لقد عزم الإخوان المسلمون أن يسيروا، وهم لن يتردَّدوا، ولن يدَعوا الفرصة تفلت من أيديهم، فتفلت بذلك من أربعمائة مليون من المسلمين، وهم يهيبون بزعماء هذه الأمة المسلمة أن اعملوا، ويرقبون أثر هذا النداء، راجين من أعماق قلوبهم أن يكون له أثره العملي؛ فيكونون أخلص جند للعاملين، وإلا فقد أعذروا ولم يبقَ بعد الإعذار إلا أن يحملوا التبعة وينفروا خفافًا وثقالاً في سبيل الله ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).

 

فسجِّل ذلك يا هلال رمضان.

------

* إعداد: إسماعيل التركي- مدير البصائر للدراسات والبحوث

* مجلة الإخوان المسلمين النصف شهرية، العدد (65)، السنة الثالثة، 1 رمضان 1364ﻫ/ 9 أغسطس 1945م، ص (3- 4).