﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (الدخان: 4).

هي ليلة البركة والسلام والقدر، وفيها يفرق كل أمر حكيم، وهي بذلك كله خير من ألف شهر، لقد بارك الله في هذه الليلة بأن قدم فيها هدية السماء ممثلة في هذا النظام الاجتماعي الكامل من كتابه الكريم لأهل الأرض، الذين التبست أمامهم المسالك، ووقفوا على مفترق الطرق حائرين.


بعد ألف وثلاثمائة وسبعين سنة من هذه الليلة المباركة أخذ زعماء العالم يهتفون بوجوب إعلان الأخوَّة بين بني الإنسان، ووجوب تدعيم هذه الأخوة بهذه الوسائل؛ حتى يستقر في الأرض السلام، ومن قبل هذه الصيحة نزل القرآن الكريم يعلن: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: 1)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية 13).

وبعد هذه الحقبة من الزمن أخذ زعماء العالم ينادون بالعدالة الاجتماعية، ووجوب تكافؤ الفرص للجميع؛ حتى يعيش الناس آمنين مطمئنين في جوٍّ من التعاطف والتراحم والوئام، ومن قبل نادى القرآن الكريم بهذه العدالة في أبدع صورها ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90)، بعد أن تناول فروعها وشعبها بالبيان والإيضاح في كثير من آياته الكريمة.

ولقد نادى روزفلت وتشرشل بميثاق الأطلنطي الذي أعلن الحريات الأربع، وما علم أصحاب هذا الميثاق أن القرآن الكريم قد سبقهم إلى تقرير هذه الحريات بأدقِّ وألطف وأجمل وأوفى مما جاء في ميثاقهم.

فأعلن حرية العقيدة بقوله: ﴿لاَ إِكْرَاهَ في الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: من الآية 256).

وحرية الرأي بقوله: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: من الآية 38).

وحرية العمل أو التحرر من العوز بقوله: ﴿فَامْشُوا في مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾ (الملك: من الآية 15)، ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: من الآية 105)

والتحرر من الخوف بإعلان الطمأنينة والأمن ﴿سَلاَمٌ هي حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (القدر: 5)، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ (الأنعام: 82).

وأضاف القرآن الكريم إلى ذلك كله معنيَيْن لم يسبق إليهما، ولن يلحق فيهما، أنه رسم الطريق العملي للناس لتحقيق هذه التعاليم الفطرية السامية، وأدخلها أعمالاً قائمةً ماثلةً في حياتهم اليومية؛ فما الصلاة ولا الصوم، ولا الآداب الإسلامية، والشعائر الدينية إلا تدعيمًا لهذه المعاني في نفوس المؤمنين بهذا القرآن الكريم.

كما أنه جعل من الضمير الإنساني الحي المؤمن بالله القوي الصلة به رقيبًا وحارسًا لا يغفل، يشيع السعادة والنعمى في الأنفس المطيعة الملتزمة بهذه المبادئ السائرة في حدودها، كما يشيع الألم والهمّ في كل نفس تتمرد عليها، ولا تنزل على حكمها.

ذلك بعض ما جاء في هذه الليلة الكريمة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، ومن أراد زيادة البيان والإيضاح فأمامه المصحف ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود: 1).


والله أكبر ولله الحمد

---------

* إعداد: إسماعيل تركي- مدير البصائر للدراسات والبحوث.

* جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (396)، السنة الثانية، 28 رمضان 1366ﻫ/ 15 أغسطس 1947م، ص (1).