من النوادر الشهيرة في الأدب العربي النادرة التالية:

(أحضر رجلٌ ولده إلى القاضي فقال: يا مولانا إنَّ ولدي هذا يشرب الخمر ولا يُصلي.
فأنكر ولده ذلك.

فقال أبوه: يا سيدي، أفتكون صلاة بغير قراءة؟

فقال الولد: إني أقرأ القرآن.

فقال له القاضي: اقرأ حتى أسمع.

فقال:

علَّق القلب الربابا             بعدما شابت وشابا

إنَّ دينَ الله حـقٌّ             لا أرى فيه ارتيابا

فقال أبوه: إنه لم يتعلم هذا إلا البارحة، سرق مصحف الجيران وحفظ منه هذا.
فقال القاضي: وأنا الآخر أحفظ آية منها هي:

فارحمي مضنى كئيبًا         قد رأى الهجر عذابا

ثم قال القاضى: قاتلكم الله يعلم أحدكم القرآن ولا يعمل به...).

 

وفي دراستها عن الفكاهة العربية، تطرقت د. "وديعة طه النجم" إلى النادرة بوصفها نواة الفكاهة العربية، والصورة الأولى لها، ومن بين النتائج التي توصلت إليها ما سجلته في قولها: (… فمن خلال النوادر التي تدور حول القضاة أو المحدثين- وهم من أقرب الطبقات إلى الأصول والشريعة- نُدرك أن المجتمع العباسي كان يُعاني من وجود قضاة أو فقهاء يجهلون الأصول الأساسية للإسلام، بحيث لم يكن أحدهم يميّز بين القرآن والشعر)(1)!!!

 

إن القول بجهل القضاة وعدم قدرتهم على التمييز بين الشعر والقرآن الكريم أمرٌ لا يمكن التسليم به بسهولة.. فما زال صغار المتعلمين في المراحل الأولى يُفرِّقون بينهما بلا جهدٍ يُذكر.. كما أن هذه النادرة – الشاهد– واضح فيها الصنعة المتقنة، فنحن أمام فاصلٍ تمثيلي- بتعبير أيامنا هذه- مكتوب ببراعةٍ وإتقان، تخدم فيه كل لفظة وحركة الهدف الهزلي للنادرة. ومن السخف أن نبني عليه أية نتائج، خاصةً إذا كانت بهذه الخطورة.

 

ولا يمكننا المقارنة في هذا السيـاق بالخبر المرويّ عن عبـد الله بن رواحة– رضي الله عنه- عندما قرأ على  زوجته:

أتانا رسـول الله يتلـو كتابـه        كما لاح منشورٌ من الصبح ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنـا        به موقنـات أن ما قـال واقـع

يبيت يُجافي جنبه عن فراشـه        إذا استثقلت بالكافرين المضاجـع

 

وادّعى أنه يقرأ القرآن لينقذ نفسه من الموقف العصيب الذي وقع فيه حين ضبطته مع جاريته(2) لأسباب عديدة؛ منها براعة "ابن رواحة" في حشد المفردات الإسلامية والقرآنية في النظم الذي قرأه، ثم قُرب العهد بالإسلام والقرآن، كما أن القصد والعمد يفرضان قراءة الأبيات بالطريقة التي كانوا يقرأون بها القرآن الكريم، ليتم الغرض المرجـو من هذه التمثيليـة، التي بلا شكٍ ما كـان ليفوت ذكـاء "عبد الله بن رواحة"– رضي الله عنه–، وهو ما يتعارض مع ملابسات النادرة التي لا يعرف فيها القاضي الفرق بين الشعر والقرآن، وهو أمرٌ إذا أخذناه على وجه الحقيقة لا يمكن أن يقبله العقل.

 

معنى هذا أن النوادر تنقسم إلى قسمين هما:

الأول: النادرة التي حدثت بالفعل، أو لها ظلٌّ من الحقيقة أو صلة بها – قربت هذه الصلة أو بعُدت-.

الثاني: النادرة التي اختُلِقت اختلاقًا، ووُضعت من نسج الخيال، بغرض الإضحاك، أو السخرية، أو التشهير بشخصٍ ما، أو غير ذلك من بواعث التندّر والمزاح.

 

ومع التسليم بصعوبةِ الجزم في هذا الأمر بالنسبة للغالب الأعمِّ من النوادر العربية؛ لأسباب عديدة كحرص الواضعين للنوادر المُخَتلقة- إن جاز هذا التعبير- على إضافةِ كلّ ما يُلقي في روع المتلقي حدوثها وصدقها، وكعدم تمايز النوادر كجنسٍ أدبي يحرص مبدعه على نسبته إليه كالشعر أو الرسائل أو المقامة- فإن هذا التقسيم يجب أن يكون واضحًا تمامَ الوضوح أمام أعيننا عند دراسة المضحك؛ وذلك لقيمته الموضوعية والفنية.

 

أما قيمته الموضوعية فإنها تساعد على عدم التسرع في إصدار حكمٍ ما، دون تُؤدةٍ وروية، فإن النوادر كما سَجّلت كل مستطرفٍ ومستظرفٍ من قصص وأقوال، ومواقف وأشعار شهدها المجتمع العربي في جاهليته وإسلامه، باديته وحاضرته، كانت أيضًا مسرحًا لكل ما شهده هذا المجتمع من صراعاتٍ متعددةٍ سواء كان صراعًا اجتماعيًّا، أو سياسيًّا، أو عقائديًّا كالذي نشأ بين الفِرق المختلفة من السنة والشيعة والخوارج، وكالصراع بين العرب والموالي، أو بين الأمويين والعباسيين، أو كذلك الذي نشأ بين البدو وأهل الحضر، إلى غير ذلك من صورِ الصراع التي اضطربت بها الحياة في ذلك الوقت.

 

ومن ثمَّ تأتي أهمية التفريق بين النادرة التي يمكن تصديق حدوثها والأخرى التي تنفي الشواهد والقرائن حقيقة حدوثها، بل تتفق وتؤكِّد تلفيقها ونسجها من الخيال المحض وإن جاءت في ثوبٍ قشيبٍ من الحبكة والإتقان!

 

ونجد هذا الأمر واضحًا عند "الجاحظ" فعندما رأى استحالة وقوع إحدى النوادر الماجنة، قدَّم لها بقوله: "ومن الأحاديث المولدة التي لا تكون، وهو في ذلك مليح..."(3) إنه لا يثق في صدقها، ولكنه معجبٌ بظرفها وملاحتها.. أي أن القيمة الموضوعية تكمن في إثارتها للضحك، وإذا تجاوزنا ذلك نكون قد جانبنا الصواب.

 

ويؤكد حرص "الجاحظ " على التفريق والفصل في ذلك الأمر، تصديره وتقديمه للنادرة نفسها في "الحيوان" بقوله: "وأمّا الناس ففي مُلح أحاديثهم.."(4) بل نجده يضع ما يشبه القانون الذي يجب أن يسير عليه كل مَن أراد لنادرته الرواج والتصديق؛ وذلك قوله في "البخلاء": (… ولو أنَّ رجـلاً ألزقَ نادرةً "بأبي الحارث جُمَّيْن" و"الهيثم ابن مُطَهَّر"، و"بمُزَبَّد"، و"ابن الأحمر" ثم كانت باردةً، لجرت على أحسن ما يكون، ولو وَلَّد نادرةً حارةً في نفسها، مليحةً في معناها، ثم أضافها إلى "صالح بن حُنين"، وإلى "ابن النَّوَاء"، وإلى بعض البغضاء لعادت باردةً، ولصارت فاترةً، فإنَّ الفاترَ شرٌّ من البارد)(5).

 

وأمّا القيمة الفنية لتقسيم النوادر إلى حقيقي ومولّد فهي افتقاد العنصر الذاتي في معظم جوانبها، بمعنى أننا لا نستطيع أن نقف على مدى ما أضافه أديبٌ أو مبدعٌ بعينه من تقنيات فنية أثَّرت على مسيرة الفكاهة وتطورها "كابن الجوزي"- على سبيل المثال- الذي صنَّف العديدَ من الكتب المتخصصة في هذا الفن بل غاية ما نتوصل إليه هو حسن جمعه وانتقائه وتدوينه للنوادر المختلفة وتصنيفها وتبويبها.

 

إننا عندما نتحدث عن المضحك في النوادر وأساليبه المختلفة، فإننا نتحرك في نطاقٍ ضيقٍ ومحدود، له جانب إيجابي وآخر سلبي، الإيجابي هو تكثيف المضحك ووضوحه بحيث لا يمكن أن تخطئه العين، أمَّا الجانب السلبي فهو عدم وضوح الجوانب الشخصية للمبدع أو وجودها من الأصل.

 

قيمة فنية أخرى يطلعنا عليها هذا التقسيم، وهي أن أغلب الجوانب الفنية للنادرة التاريخية- أو التي حدثت بالفعل- تكمن في حسن التقاط مَن سجَّلها لجوانب القوة فيها وتأكيدها بالصياغة والبناء المتينين، وقد يؤدّي الحرص على ربطها بوشائج تربطها بالواقع إلى إضافة ما يقلل من قيمتها الفنية، كتعليقٍ لا حاجة إليه أو استطراد ممجوج.. إلخ؛ وذلك على عكس النوادر المولدة التي يكون بناؤها الفني أعلى بكثيرٍ من نظيراتها التاريخية؛ حيث تجنح إلى أقصى درجات المبالغة متحررة من منطق الواقع وما يفرضه من حدود وقيود.

-------------------

الهوامش:-

(1) الفكاهة في العصر العباسي- د. وديعة طه النجم- ص 15.

(2) الأذكياء- ابن الجوزي- تحقيق: أسامة عبد الكريم الرفاعي- مكتبة الغزالي- دمشق- 1985، ص 48.

(3) البيان والتبين- الجاحظ- تحقيق: عبد السلام هارون-  دار الجيل- بيروت- ج4- ص 14.

(4) الحيوان- الجاحظ- تحقيق: عبد السلام هارون- دار الجيل- بيروت- ج 1- ص 370.

(5) البخلاء- الجاحظ-  ص31.