تصاعدت حدة التراشق الإعلامي والاتهامات المتبادلة بين مصر والكيان الصهيوني في الفترة الأخيرة، ودخلت القيادة السياسية في كلا البلدين إلي هذه الحلبة، فصدرت بيانات رسمية، ونقلت الصحافة اتهامات رسميةً ونقدًا صريحًا لكلا الطرفين، فوجه الرئيس مبارك انتقادات حادةً إلي رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون بأنه ليس رجل سلام، ولا يمتلك رؤيةً للسلام، ووصفه بأنه يلتهم خروفًا في إفطاره.

ورد الإسرائيليون على انتقادات مبارك بأنه يتدخل في الشؤون الإسرائيلية الداخلية بعد زيارات قادة حزب العمل الإسرائيلي إليها، واتهمت الصحافة الإسرائيلية مصر بأنها تمد الفلسطينيين بالأسلحة والمتفجرات عبر الأنفاق بين الأراضي المصرية والأراضي الفلسطينية.

وهكذا انتقلت حالة الغضب المكتوم بين مصر وإسرائيل إلي تراشق حاد شاركت فيه القيادة السياسية في مصر والكيان الصهيوني وهو ما يجعلنا نغوص خلف هذا التراشق والاتهامات لمعرفة أسباب صعود هذه الحملة المتبادلة والرسمية في ضوء المتغيرات - الإسرائيلية والعلاقات المصرية اليهودية التي استمرت أزماتها على مدار عشرين عامًا، وتراوحت هذه الأزمات بين العنيفة والمعتادة، مما جعل الطابع المميز لهذه العلاقة تتسم بالتوتر الدائم، الذي وصل في بعض مراحله إلي استدعاء السفير المصري من تل أبيب بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في بداية الثمانينات، ثم استمر غياب السفير المصري عن إسرائيل أربع سنوات تدنت خلالها حركة التفاعل بين البلدين، ثم استدعت مصر سفيرها للمرة الثانية مع تصاعد حدة الاعتداءات الإسرائيلية الوحشية على الفلسطينيين في الانتفاضة الحالية.

واستمرت حالة التوتر في العلاقات والتي تعمقت مع ازدياد حدة التنافس بين مصر والكيان الصهيوني على المكانة الدولية والإقليمية، ومحاولات الكيان الصهيوني الدائمة لتهميش مكانة مصر ودورها في بعض دوائر حركتها الخارجية وبخاصة في أفريقيا حيث شهد الدور المصري منافسة خطيرة وقوية من الجانب الإسرائيلي أدت إلي إزاحته عن بعض مواقعه في القارة السمراء.

ومما غذي حالة الركود والهدوء الذي يحمل داخله تفاعلات عنيفةً وحادةً بين تل أبيب والقاهرة هو حالة الغضب والكراهية الشعبية التي تملأ المخزون الوجداني والثقافي المصري ضد الكيان الصهيوني والتي عرقلت إتمام عملية التطبيع التي نصت عليها اتفاقية السلام بين البلدين، وعدم رغبة النظام المصري في المخاطرة بوضعه، إذا ما أقدم على تمتين العلاقات المصرية - الإسرائيلية، لإدراكه أن كل خطوة يتقدمها نحو إسرائيل تخلق فجوةً كبيرةً بينه وبين الشعب ومثقفيه، لهذا كان النظام المصري حريصًا على التكتم الشديد على علاقته بالجانب الإسرائيلي، وإعلانه المتكرر عن عدم وجود علاقات اقتصادية رغم أن البيانات الإسرائيلية الموثقة كانت تشير إلي وجود علاقات اقتصادية متنوعة بين البلدين. إضافةً إلى تأكيد الرئيس المصري على أنه لم يقم بزيارة للكيان الصهيوني حتى الآن.

هذه الحالة المربكة والملتبسة في العلاقات المصرية - الإسرائيلية أوجدت حالةً من السيولة في القاهرة، فالنظام المصري لا يستطيع قطع علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل كما أعلن مبارك ذلك مرارًا كما أنه لا يستطيع أن يصمت على ما يحدث من اعتداءات إسرائيلية على الفلسطينيين انطلاقًا من اعتبارات متعددة يأتي في صدراتها الأمن القومي المصري الذي يعتبر أن تأمين الحدود يبدأ من أقص الشمال الشرقي وليس من سيناء فقط، كما أن الضغوط الشعبية التي تعرض لها النظام المصري خلال فترة الانتفاضة الثانية، والمطالبات المتعددة بقطع العلاقة مع إسرائيل حتمت عليه أن يفعل شيئًا لامتصاص الغضب الشعبي.

فكانت عملية سحب السفير المصري من تل أبيب وتجميد العلاقات بين البلدين باستثناء العلاقات التي تخدم القضية الفلسطينية، حسبما أعلنت القاهرة في بيانها بهذا الخصوص غير أن حركة التفاعلات المستمرة وتردي الأوضاع في الأراضي الفلسطينية واجتياح الكيان الصهيوني لأراضي الضفة الغربية، والإصرار الإسرائيلي على إقصاء عرفات مدعومةً في ذلك بتأييد الولايات المتحدة.

هذه المتغيرات الدرامية أوجدت واقعًا مختلفًا جعل القاهرة تبحث عن مخرج من هذه الأزمة مع بقائها الفاعل في أي ترتيبات أو تسويات قادمة ومحتملة، لهذا تحركت القاهرة دبلوماسيًا لفتح قنوات جديدة مع الإسرائيليين، والتقي المستشار السياسي للرئيس الدكتور أسامة الباز، وعمر سليمان مدير المخابرات، بشارون والقيادة الإسرائيلية لقراءة الأوضاع عن كثب، ونقل رسالةً مهمةً إلي شارون أن مصر ما زالت تتبني القضية الفلسطينية وأن أي ترتيبات قادمة لابد أن تكون القاهرة في مطبخ العمليات.

وقد نتج عن ذلك موافقة مصر على الإصلاحات التي اقترحها بوش / شارون  لإصلاح السلطة الفلسطينية مع تمسك القاهرة ببقاء عرفات في السلطة، أو تعهد القاهرة بالمشاركة في تدريب أفراد الشرطة الفلسطينية على أعمال مكافحة الإرهاب لوقف هجمات الفلسطينيين على الإسرائيليين.

لكن القاهرة تحركت في علاقاتها مع إسرائيل على محور جديد، حيث استمرت في انتقادها الحاد لشارون واعتبار انه ليس شريكاً في عملية السلام، وأنها لا تراهن عليه في إيجاد أي حل سياسي للقضية الفلسطينية نظرًا لإصراره على الحلول الأمنية فقط دون السياسية، واستخدامه القوة المفرطة لكسر الإرادة الفلسطينية لهذا قامت القاهرة بالعمل للبحث عن شريك إسرائيلي للعودة إلي مائدة المفاوضات بدلاً من فرض الحلول بالقوة.

ويبدو أن الرهان المصري وقع على حزب العمل، فالتقي الرئيس مبارك على فترات مع قيادات حزب العمل الإسرائيلي، وكان أهم شخصين التقي بهما مبارك بنيامين بن اليعيزر رئيس حزب العمل ووزير الدفاع الإسرائيلي، حيث عرض اليعيزر على مبارك خطته للتسوية تهدف إلي إعادة الحياة الطبيعية على حد قوله إلي قطاع غزة في مقابل وقف العمليات الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني، وهي خطة تشير إلي إقامة الدولة الفلسطينية في غزة أولاً، وإن كانت تعنى العودة بالفلسطينيين إلى المربع الأول مربع غزة أولاً أريحا أولاً، ولكن صارت بيت لحم بدلًا لأريحا، كما أنها خطت تصور مدى الحرص الإسرائيلي على قيام السلطة الفلسطينية بدور فاعل في حفظ أمن الكيان الصهيوني وأيضًا الدفع اليهودي للفلسطينيين في دخول حرب أهلية، إضافة إلى أنها تصور مدى الخبث اليهودي حين يتواصل السعي اليهودي للوصول إلى هدف معين، مع تغيير في السبل والطرق ودفع الآخر للتنازل أو المزيد من التنازل.. وذلك يتضح من تحويل الأمور الرئيسية والهامة إلى مائدة التفاوض، في وقت لاحق، في محاولة للتثبيت الأوضاع.. ودفع الفلسطينيين للتعلق بالأوهام، وهي خطة تشجعها مصر رغم استمرار خلافاتها مع اليعازر حول بقاء عرفات في السلطة حيث يصر اليعازر على أن عرفات متورط في الإرهاب وضرورة إقصائه.

وكانت الشخصية الثانية التي التقاها مبارك هي شيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي وأحد قيادات حزب العمل، وأعرب مبارك خلال لقائه مع بيريز عن اعتقاده بوجود خطأ في السياسة الإسرائيلية الحالية، وأن على الإسرائيليين أن يعيدوا حساباتهم، مؤكداً أن اللجوء إلي القوة العسكرية لن يوقف حالة التدهور، وأن الفلسطينيين لن يتنازلو عن حقوقهم، التي ناضلوا من أجلها نصف قرن، وأنهم على استعداد لمواصلة النضال نصف قرن أخر، وانتقد مبارك شارون لأنه لا توجد لديه خطةً للسلام وأكد أنه ليس هناك بارقة أمل طالما أن الحكومة الإسرائيلية لا تملك خطة سلام واضحة المعالم.

وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده بيريز وماهر، طفت على السطح الخلافات بين الرؤية المصرية والإسرائيلية خاصةً قضية بقاء عرفات في السلطة، فاتهم بيريز القيادة الفلسطينية بأنها حكمت بشكل سيء عبر جهاز مسلح، فأجاب ماهر إذا كانت الحكومة الإسرائيلية لا تعرف عنوان الفلسطينيين فبإمكاني أن أعطيها إياه فقاطعه بيريز بسؤاله: كم عنوان سيكون لديك، فرد ماهر العنوان هو عرفات ويجب علينا تجاوز هذه اللغة.

هذا الانفتاح من القاهرة على حزب العمل الإسرائيلي المشارك في حكومة شارون بمقاعد مهمة مثل الدفاع والخارجية أثار غضب شارون وعدد من الكتاب الإسرائيليين. فصدر بيان رسمي من مكتب شارون ينتقد فيه محاولة مصر التدخل في الشؤون الداخلية للكيان الصهيوني بعد الزيارات المتكررة لوزراء العمل إلي القاهرة، ووصل الأمر بشارون إلي حد اتهام أعضاء حكومته من العمل بأنهم يحجون إلي القاهرة واعتبر كتاب إسرائيليون أن لقاءات مبارك مع وزراء حزب العمل الإسرائيلي هي محاولة مصرية لدق إسفين داخل حكومة الكيان الصهيوني، وقللوا من أهميتها واعتبروا أن شارون غير مستعد لمغازلة مبارك ولا يحتاج إلي خدماته لمعالجة المشكلة الفلسطينية، إضافةً إلي شارون لا يخشى أراء حزب العمل وغيره من الأحزاب الإسرائيلية. هذا رغم أن إليعازر وبيريز لم يقدما ما يعد تغييرًا أو تنازلاً في سياسة الكيان الصهيوني إزاء الحقوق الفلسطينية.

وأكد الكاتب الإسرائيلي - جاي بيخور - في مقال له في صحيفة يدعوت احرونوت أن الأمل قد تلاشي في ظهور جيل جديد من المصريين لا يعرفون الحرب مع الكيان الصهيونى رغم مرور عشرين عامًا على توقيع اتفاق السلام بين البلدين، ووجه بيخور انتقادات لمبارك لعدم فعله شئ لوقف الانتقادات للإسرائيليين في الصحافة المصرية مؤكدًا أن النظام المصري يريد أن يولي وجهه شطر العالم العربي على حساب الكيان الصهيونى.

إلا أنه من الملاحظ في التفاعل في العلاقات المصرية - الإسرائيلية في الفترة الأخيرة، أنه كلما تعقدت الأمور داخل الأراضي الفلسطينية، واشتدت ضربات المقاومة الفلسطينية لإسرائيل، قام مسؤولون إسرائيليون بزيارة القاهرة والاجتماع مع القيادة السياسية، وقبول الدعوة لزيارة مصر والإعلان عن رغبتهم تحريك المياه الراكدة في العلاقات بين البلدين، ومن يطالع سجل الزيارات يلحظ أن كثيرًا منها جاء بعد ضربات عنيفة وجهة الاحتلال اليهودى إلي الفلسطينيين وتتوقع ردودًا وشيكةً من الفلسطينيين على هذه الاعتداءات..

وهذه السياسة الإسرائيلية التي تزاوج بين الأساليب العسكرية العنيفة والأدوات الدبلوماسية، لا شك أنها تخلق بلبلةً على الجانب العربي الذي فقد كثيرًا من قدرته على التأثير في الأحداث، خاصةً وأن جوهر الخطاب الذي يطرحه شارون يطرحه العمل ولكن بأساليب أكثر دبلوماسة كما أن اليعيزر وبيريز هما من الذين ينفذان سياسة شارون ويسوقانها في الخارج، ومعني ذلك أننا أمام حكومة يهودية تجمع كل ألوان الطيف الحزبية وتتسم بتآكل الفروق والاختلافات الأيدلوجية، وهى بذلك تعبر عن الوجه اليهودى بلا رتوش، وبالتالي فإن المحاولات المصرية المتواضعة لفتح ثغرة في الحكومة الإسرائيلية لتغيير في السياسات أو التوجهات تصبح محل شك كبير في إمكانية نجاحها كما أنها عملية محفوفة بمخاطر على طبيعة وحجم الدور المصري في المنطقة وما يقدمه هذا الدور على ساحة التفاوض وما يسمى بعملية السلام.

وفى هذا الإطار تحدث بعض الكتاب أن الانفتاح المصري على حزب العمل يسوغ الممارسات الإسرائيلية العدوانية ضد الفلسطينيين ولا يقدم لهم شيئًا بل يؤثر على صلابة الموقف الفلسطيني أمام الضغوط الأمريكية والإسرائيلية في فرض حلول أمنية على الفلسطينيين بدلاً من حلول سياسية عادلة.

وعلي هذا فإن التكتيك المصري لإحداث تغيير في الحكومة الإسرائيلية من الداخل، أو إيجاد خلاف بين العمل والليكود لا يعدو أن يكون مراهنات سياسيةً ضعيفةً، فالحكومة اليهودية الحالية تحكمها توازنات سياسية داخلية تؤدي إلي استمرارها وبقاء شارون في رئاستها، كما أن قادة العمل في الحكومة بيريز واليعيزر لن يقدموا على الانسحاب من هذه الحكومة لاتساع المساحة والأرض التي يلتقون فيها مع شارون، أضف إلي ذلك أن محاولات قادة العمل للحصول على التأييد الشعبي لهم وإحراز نقاط على الليكود في الانتخابات  القادمة لا تبدأ من القاهرة، ولكنها تبدأ من تبني مواقف متشددة واتباع سياسات عنيفة ضد الفلسطينيين، لأن الشارع الإسرائيلي منحه بقوة للتحكم مع الفلسطينيين.

لذلك فالمنافسة في هذه الحالة يربحها الطرف الأكثر عنفًا من شارون لهذا لا نتوقع أن تقود التحركات المصرية إلي خلق جبهة إسرائيل داخلية معارضة لشارون أو كما وصفت الصحف الإسرائيلية ذلك بالمحاولات لدق اسفين داخل الحكومة المصرية.

مستقبل العلاقات المصرية الإسرائيلية :

الواقع أن مستقبل العلاقات المصرية - الإسرائيلية سيستمر على حالته مع التوتر الدائم، فرغم الاستقرار العسكري الظاهر والمغلف بعلاقات دبلوماسية ومحكومة بمعاهدة سلام وتعهدات أمريكية فإن من غير المتوقع أن تشهد العلاقة بين تل أبيب والقاهرة تقاربًا في الفترة القادمة، ويرجع ذلك في الأساس إلي الأزمات التي تسمم العلاقة موجودة ومتزايدة فما زالت القضية الفلسطينية في نفقها المظلم ومازالت أزمة الثقة التي تحكم علاقة البلدين موجودةً وما زال السعى اليهودى لممارسة دوره في المنطقة سيؤدى بشكل أو بآخر على إنهاء الدور، وقبل كل هذا فإن هناك النفور الشعبى المصرى من كل ما هو يهودى مع الرفض للقبول بالكيان الصهيونى وبالطبع رفض التطبيع معه.

هذه الأزمات تخلق قلقًا متزايدًا يبعث على استمرار الشك والهواجس المختلفة ورغم محاولات الكونجرس بحث سبل إنعاش العلاقات المصرية - الإسرائيلية، ورغم الضغوط الأمريكية، إلا أن هذه المحاولات تحطمت على الشئ الثابت في العلاقة وهو الأزمة والتوتر.

5 من جمادى الثانية 1423هـ

13 من أغسطس 2002م