جاءت معركة الفرقان التي شهدتها غزة لتعيد القضية الفلسطينية إلى مسارها الصحيح بعد سنوات من التيه الفكري والسياسي الذي ذهب بها بعيدًا في أودية التنازل والاستسلام للأمر الواقع.

 

أدت انتفاضة الجماهير الإسلامية في العالم كله إلى رد القضية الفلسطينية إلى القضاء العقدي- وهو مكانها الطبيعي- الذي عملت السياسات الإقليمية والمحلية على إبعادها عنه لتغدو مسألةً صغيرةً تعني الفلسطينيين وحدهم؛ في حين يعمل اليهود على إضفاء الصبغة الدينية على مزاعمهم ومواقفهم لتحتضنها العقيدة التوراتية في كل مكان، فتكون سندًا لها سياسيًّا وإيديولوجيًّا وماليًّا وإعلاميًّا، فقد عبرت الأمة الإسلامية عن إيمانها الراسخ بأن فلسطين قضيتها وأنها قضية للدين والعقيدة فيها حضور بارز، سواءٌ لرفع التحديات المعادية أو لمكانة القدس والمسجد الأقصى باعتبارهما من شعائر الإسلام ثم للشعور العام بأن الدولة الصهيونية خطر أمني وثقافي واقتصادي وسياسي على المسلمين جميعًا.

 

وكان من أهم مكتسبات معركة الفرقان اندثار فكرة أن العدو الصهيوني قوة لا تُقهر وشوكة لا تُكسر كما تروِّج الأنظمة العربية وأبواقها الإعلامية والثقافية، وقد استمرأت الانبطاح أمام العدو والاستئساد على الشعوب، وضخَّمت قوة اليهود، وبشَّرت بخلودها، فصمدت غزة، وثبتت المقاومة، ولم يحقق الكيان الصهيوني أيًّا من الأهداف الكثيرة التي سطَّرها للعدوان؛ فلا هو كسر حماس ولا أعاد غزة إلى سلطة رام الله- التي كان رموزها على الجانب المصري من معبر رفح ينتظرون أن يدخلوها فاتحين- ولا أوقف تساقط الصواريخ على الأراضي المحتلة، ولا قضى على قادة الحكومة الشرعية، ولا حرَّرت جنديها الأسير، فأثبتت المعركة أن جيش العدو يُقهَر ويُكسَر، ويمكن ردعه والانتصار عليه لو كان للعرب والمسلمين دولةٌ اجتمعت فيها معاني الوطنية والأصالة والقوة بدل الدويلات المتهارشة والمتسابقة لإرضاء العدو حفاظًا على بقاء حكامها.

 

ولقَّنت غزة المتخاذلين عن الجهاد من المسلمين والعرب والفلسطينيين الذين خارت عزائمهم درسًا بطوليًّا؛ بسبب تشبثهم الشديد بكراسي الحكم، فقرَّروا أن قتال اليهود غير ممكن؛ لأن المعركة ليست متكافئةً، ثم أعلنوا أن الجهاد إرهابٌ يجب التعاون مع كلّ الدول- وعلى رأسها العدو الصهيوني- لمحاربته، وانتهوا إلى أن معركتهم مع عدوٍّ واحد لا ثاني له، هو كل من يدعو إلى الجهاد أو يمارسه؛ وذلك للتمكين لعملية السلام التي ستتفتَّق عن بركات عظيمة مثل التنمية والديمقراطية والعيش المشترك في إطار الشرق الأوسط الجديد تحت الرعاية الأمريكية والحراسة الصهيونية!.

 

وقد التفَّت غزة حول رموز الجهاد- وهو عين ما تفعله الضفة الغربية لولا سلطة دايتون التي منعتها حتى من التظاهر تنديدًا بالحرب- ولم تُلقِ المقاومة السلاح ولا رفعت الراية البيضاء، وهو ما يبشِّر بالعودة القوية إلى خيار المقاومة لتحقيق المكاسب السياسية لصالح الفلسطينيين واسترجاع حقوقهم وتحرير أرضهم، وقد انتبهت الأمة إلى غرابة موقف من يرفع شعارات الجهاد ويلوم حماس على "تقاعسها"، لكنه لا يصيب اليهود بأي أذى، وإنما يتمثل جهاده في قتل المسلمين في أكثر من بلد عربي وإسلامي، في حين كان ينبغي أن يجسِّد شعاراته في نصرة الفلسطينيين، وإثخان عدوِّهم، وكف يده عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

إن العدوان على غزة وصمود المقاومة أعاد طرح خيار الجهاد بقوة على الساحة الشعبية الإسلامية كبديل للمفاوضات العبثية التي لم تنتج سوى سلسلة من التنازلات المجانية للكيان الصهيوني، أغرته بمزيد من التماطل والمطالب؛ لعلمه أنه سيحصل عليها بغير مقابل من مفاوضين ليس لهم سند شعبي أصبح همّهم توطيد أركان سلطة وهمية تتيح لهم- هم فقط- الاستحواذ على المساعدات والاستمتاع بالامتيازات، بعيدًا عن هموم المواطنين وقضايا التحرير، ويستطيع كل مراقب أن يلحظ رفض الأمة الإسلامية عامةً نهجَ التفاوض مع اليهود والتنازل لهم ورغبتها في إحياء شعيرة الجهاد لتحرير فلسطين أسوةً بتحرير الجزائر من الاحتلال الفرنسي، وفي هذا إسنادٌ معنويٌّ كبيرٌ للمقاومة الفلسطينية ودعمٌ لخطِّها الذي يبشِّر بموقف صُلب يفسد حسابات الكيان الصهيوني وينصر أصحاب الحق.

 

أما اعتبار الولايات المتحدة الأمريكية راعيةً للسلام في الشرق الأوسط فقد أحالته معركة غزة إلى أضحوكة يتندَّر بها الناس، حتى أصبح من غير الممكن أن يردِّد هذا الكلام أيّ سياسي عربي أو فلسطيني بعد أن كان ملء الأفواه، كيف لا وهذا الراعي المزعوم للسلام هو الخصم والحكم؟! حتى إنه يبدو في بعض الأحيان هو التابع للدولة العبرية الخاطب لودِّها وليس العكس، والجميع يعرف كيد الخصم والحكم!.

 

لقد كشَّرت الأصولية البروتيستينية المتصهينة عن أنيابها في وجه كل ما هو عربي ومسلم، ضاعفت قوة اللوبي اليهودي وبرَّرت المحرقة الصهيونية في غزة، وجاهرت بإمداد العدو بالسلاح أثناء العدوان، فماذا ينتظر منها أشدُّنا "اعتدالاً" وإيمانًا بالحل السلمي؟!

 

إن من بركات معركة الفرقان أن تعيد القضية الفلسطينية إلى إطارها الإسلامي، وأن تعيد المسلمين إلى ربهم ودينهم لينجزوا ما تعسَّر عليهم تحت الرايات المختلفة التي رفعوها منذ عقود من الزمن؛ بعد أن يطلقوا الأوهام ويبصروا الحقائق ويعدُّوا لها عدَّتها متوكلين على الله موحِّدين لصفوفهم متآلفين.. ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله.