أعتقد يقينًا أن أحدًا في مصر الرسمية أو المعارضة أو الشعبية لا يختلف على حجم الفساد المستشري في جنبات الحياة، ولا على مدى الظلم الذي يُغلِّف حياةَ المصريين جميعًا، كلٌّ على مستواه ووفقًا لظروفه، ولا على فظاعةِ الاستبداد الذي يمارَس ضد الشعب المصري بكل فئاته، من خلال منظومةٍ أمنية سيطرت على جنبات الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية والتعليمية والاجتماعية والثقافية؛ مما أحال عيشة المصريين إلى نكدٍ وتضييقٍ جعل من مصر سجنًا كبيرًا لمَن هُمْ خارج سجونها التي ملأت كلَّ ركنٍ من أركان المحروسة بالقوى!.

 

وبناءً على هذه البديهية فإن النظام الحاكم في مصر وقد فَقَدَ شرعيته القانونية بعدم احترامه وامتثاله لحكم القانون والدستور، كما فقد شرعيته الشعبية نتيجةَ حياة القهر التي فرضها على المصريين؛ مما اضطره إلى تزوير كل انتخاباتٍ يتمُّ إجراؤها منذ زمنٍ بعيد!.. فإنه أيضًا فقد رشده وعقله بعد أن فَقَدَ قدرته على الإقناع والحوار مع معارضيه؛ فاعتمد على تلفيق الاتهامات وتزوير الحقائق بجهازه الإعلامي المؤمَّم مع الأوقاف والمساجد، رغم خصخصة كافة وسائل الحياة الأخرى!.

 

وهنا في سلسلة ملاحقة النظام للإخوان المسلمين- باعتبارهم أكبر القوى المعارضة وأكثرهم قدرةً على تعبئةِ الشارع المصري- تبرز قضية التنظيم الدولي حلقةً ضمن سلسلة تلفيق القضايا وإشغال الإخوان والشعب المصري بها!.

 

وفي ظلِّ الانبطاح المصري أمام الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وفي ظل رغبة تملَّكت النظام الحاكم في مصر، وعلى غير ما تعوَّد الشعب المصري منذ أكثر من خمسين عامًا لتوريث حكم مصر، بجلالةِ تاريخها وأهمية موقعها وعظم دورها؛ نستطيع أن نفهم حقيقة القضية المتهم فيها خيرة الإخوان المسلمين في أحدث ملاحقةٍ أمنيةٍ، والمعروفة بقضية "التنظيم الدولي"، وهنا نريد أن نُوضِّح الأهداف الحقيقية لهذه الهجمة الشرسة من خلال مذكرة تحريات أمن الدولة التي تنشرها جريدة (المصري اليوم):

1- أن الاسم الحقيقي للقضية هو قضية دعم غزة والفلسطينيين؛ لأن كل الأموال فيها كانت لدعم غزة.

 

2- في هذه المرحلة التي راجت فيها بضاعة الجهاد بما تحقِّق من نصرٍ لأبناء غزة، وما سبَّبته من فضائح للنظام الصهيوني وكل الأنظمة العربية العميلة، فالمطلوب توجيه إساءة إلى جهاد الشعب الفسطيني وإظهاره أمام الشعب المصري بأنه شعبٌ ناكرٌ للجميل نُقدِّم له الدعم ويُصدِّر لنا الإرهاب والقتل والترويع بتدريب المسلَّحين ومدِّهم بالسلاح لعمليات إرهابية داخل مصر، وضد الشعب المصري المسكين! لذلك كانت التهمة تجنيد الشباب وإرسالهم للتدريب على استعمال الأسلحة في سيناء وتمويلهم للقيام بعمليات إرهابية داخل مصر!.

 

3- تشويه صورة الإخوان وكافة لجان الإغاثة التي أشرفوا عليها وأداروها لدعم الشعب الفسطيني بكل أمانةٍ وصدقٍ، جعلت منهم المكان الوحيد لاستقبال تبرعات الشعب المصري بل والشعوب العربية لحسن توجيهها إلى أصحاب الحق، رغم ما مارسه النظام المصري من تضييق ومنع، حتى اشترط أن تدخل التبرعات تحت اسم الهلال الأحمر، ولم يمانع أحدٌ في ذلك؛ لأن الهدفَ هو وصول هذه التبرعات لمستحقيها تحت أي اسم، فكانت التهمة الاستيلاء على التبرعات وغسيلها في شركات الجماعة ومؤسساتها؛ لإثارة الشك وتشويه صورة رجال الأعمال من الإخوان لصالح رجال الأعمال من أنصار النظام؛ لحرمان أي مواطنٍ شريفٍ من منافسة تجارتهم واحتكاراتهم التي أضرَّت بالبلاد والعباد!.

 

ولقانون غسيل الأموال والبنك العربي قصة معي عند مناقشته في المجلس، يوضِّح حقيقة ما حدث في هذه القضية خلافًا لنصوص القانون نفرد لها مقالة قادمة إن شاء الله!.

 

4- مع تشويه الجهاد الفلسطيني ووصفه بالإرهاب، كما تفعل أمريكا والكيان الصهيوني، واتهام القائمين على أعمال الإغاثة بتبييض الأموال المتحصَّل عليها من التبرعات؛ لا بد أن يكون ردُّ فعل الشعب المصري هو وقف مشاعر الأخوَّة والتعاطف والمساندة الذي يسبِّب حرجًا للنظام المصري في كل وقتٍ يعتدي الصهاينة فيه على إخواننا في فلسطين! حيث يموج الشارع وتلتهب العواطف وتنهال التبرعات؛ في محاولةٍ لستْر الموقف الرسمي المخزي أمام الدماء الزكيَّة التي تنزف من أهلينا في فلسطين! المطلوب إذن حصار ومنع حالة التعاطف لدى الشعب المصري تجاه إخوانه!.

 

5- ولا شك أن تشويه صورة الإخوان بعيدًا عن العمل الإغاثى أيضًا هدفٌ يستحق التلفيق والكذب والادِّعاء بالباطل ضد الشرفاء منهم في كل وقتٍ وكل حين! فإن مذكرةَ التحريات الهزيلة تتَّهم الإخوان بتكوين كتائب جهاد؛ وذلك بممارسة المشي لمسافات طويلة!!؛ حيث قالت المذكرة: "إن المتهمين أنشؤوا وحدةَ الإعداد البدني والنفسي، ويتولى مسئوليتها المهندس أشرف محمد عبد السميع الجزار، وتضطلع هذه الوحدة بانتقاء العناصر الطلابية من المصريين واستقطابهم وإعدادهم بدنيًّا، من خلال تدريبهم على الرياضة العنيفة، وتنظيم معسكرات ذات طابع لهم أطلقوا عليها مسمى "معسكرات جهادية"، تم خلالها نشر ثقافة العنف؛ بدعوى أنها بمثابة جهاد في سبيل الله، من خلال تنظيم رحلات سير لمسافات طويلة بهدف تشكيل كتائب جهادية منهم؛ تمهيدًا لإيفادهم إلى المناطق التي تشهد صراعاتٍ على مستوى العالم، متهمةً هذه الوحدة بإعداد برنامج عملي لتدريب هؤلاء الطلاب على حمل السلاح تحت زعم الدفاع عن الوطن في حالةِ تعرُّضه لأي هجومٍ من جانب قوى خارجية"!!! ده كلام يترد عليه؟! نشر ثقافة العنف بدعوى أنها جهاد!! بقى ده مستوى ضابط عرف حاجة عن الإسلام أو الإخوان؟!

 

6- ومن التهم العجيبة التي تجعل من مجرد تناول الطعام والشراب لأي فردٍ من الإخوان جريمةً يُعاقب عليها ما جاء عن إنشاء قناة فضائية- كبيرة الكبائر لنظام الريادة الإعلامية!!- فتقول المذكرة إيَّاها: "كشفت المذكرة عن نجاح التنظيم، وهذه الوحدات الإخوانية في إنشاء قناة فضائية يتمُّ بثُّها من العاصمة البريطانية لندن باسم قناة (الحوار)، وقالت المذكرة إن المتهمين قاموا بإنشاء وحدة تُسمَّى الوحدة الإعلامية، يتولى مسئوليتها الدكتور حسام أبو بكر الصديق الشحات، ويعاونه فيها المهندس علي عبد الفتاح القيادي البارز بالجماعة، ووليد عبد الرؤوف محمود السيد شلبي، وتضطلع بنشر وترويج المبادئ والتوجُّهات الإخوانية إزاء القضايا السياسية المطروحة على الساحتين الداخلية والخارجية من خلال رسائل الإعلام المختلفة، مشيرةً إلى أن الوحدة أسندت إدارة قناة (الحوار) لمَن وصفته المذكرة بعضو التنظيم الإخواني في الأردن عزام سلطان التميمي، عضو الرابطة الإسلامية ببريطانيا"!!!! وكم هي عجيبة لو تمَّت المقارنة بين الحوار وقنوات الريادة الفضائية! ورغم موافقة لندن إلا أن النظام يموت من الغيظ لإطلالة الإخوان من خلال الحوار التي تسمح للجميع بالظهور دون إقصاء أو حصار كما يفعل النظام الفاسد في مصر!.

 

7- ومما لا شك فيه أن من أهداف هذه الحملة استرضاء الكيان الصهيوني أولاً ثم الإدارة الأمريكية، التي تراجعت عن دعم الديمقراطية في بلاد العرب والمسلمين لتمرير طلبات النظام الشخصية التوريثية دون اعتراض، في نفس الوقت الذي تكرِّس فيه مصر الرسمية الانشقاق الفسطيني بعد فضيحة أبو مازن الذي اغتال الزعيم الفلسطيني وسط صمتٍ عربي مريب وتآمر مفضوح لتمرير الخطط الصهيونية لتصفية المقاومة التي تكرهها السلطة الفلسطينية والحكومة المصرية في نفس الوقت!.

 

8- ومن الأهداف الخبيثة التي ترمي إليها سياسات النظام الحاكم من هذه القضية إثارة حالةٍ من الفزع لدى كثيرٍ من الدول التي جاء ذكرها في مذكرة التحريات الساذجة؛ لحملها على اتخاذ إجراءات ضد ما وصفوه بالوجود المؤثِّر لتنظيم الإخوان في بلدانهم كي يحصل النظام المصري على التأييد الدولي المطلوب لحملته ضد خصومه السياسيين!.

 

وهنا ننصح القائمين على الحكم في مصر بالتبرُّؤ من هذه المذكرة التي جلبت التعاطف والاحترام والتقدير للإخوان أفرادًا وتنظيمًا!، وننصحهم بأن هذه الإدارة لملف الإخوان سوف تروِّج للإخوان وتُهيل التراب وتجلب العار على مَن كلَّفهم بهذه المهمة!.

 

وننقل لهم خبرًا منذ عامين يحتاج وقفةً من رجال الأمن، ولا مانعَ من تقليد ما جاء فيه؛ حيث يقول الخبر: "لأول مرة في بريطانيا تتاح الفرصة لقوات الشرطة البريطانية للاطِّلاع على الدين الإسلامي، من خلال مقررات جامعية تعليمية، تقدَّم بأسلوب أكاديمي؛ فقد قدَّم أكاديميون من (معهد الدراسات العربية والإسلامية- Iais) في (جامعة إكسيتير) البريطانية تجربةً جديدةً تمثلت في طرح مساقات خاصة تُعرف بالإسلام، ومُوجَّهة إلى الأفراد من قوات الشرطة البريطانية، وطبقًا لقول المشرفين على تلك التجربة، فإن المستهدفين من هذه المقررات "التثقيفية" هم المحقّقون من كبار ضباط الشرطة البريطانية؛ فهي تزودهم بمعلوماتٍ حول الدين الإسلامي تتناول العقيدة والتشريعات الإسلامية، بالإضافة إلى تفسير طبيعة الشعائر الدينية التي يُمارسها الفرد المسلم، كما أنها تتضمن زياراتٍ ميدانيةً إلى المساجد وتنظيم لقاءات مع الأفراد من روادها، ويهدف توفير تلك المساحات لكبار ضباط الشرطة من وجهة نظر المختصين من الجامعة إلى زيادة المعرفة والاطِّلاع على الثقافة والدين الإسلامي بين الأفراد في هذا القطاع" انتهى الخبر ولم تنتهِ الدروس الواجبة منه.

 

كما أننا هنا ننصح كل الإخوان ومحبيهم والمتعاطفين معهم أن يتدبَّروا قول الله تبارك وتعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)﴾ (آل عمران).

------------

* [email protected]