د. إيهاب فؤاد
إلى كل حبيب قيَّده ظالم، وغيَّبه عن بيته مَن لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، إلى حبيب القلب الذي أرَّقني نبأ اعتقاله، رفيق الصبا، وشقيق الدرب، الحبيب عصام شرف الدين، حقيق أنني لم أجزع لاعتقال أحدٍ كما جزعتُ لاعتقال مصعبَ هذا العصر، إنه الفتى الرقيق المدلل الذي كنا نقول له مداعبين: متى يأتي علينا التجنيد الإلزامي؛ لنرى فيك يومًا فترى شظف العيش، وكنا نمازحه بذلك؛ حتى إنه حين تعرَّض لذلك وتطاول عليه الشاويش، ضربه فأسال دمه، ولم يكن له من مخرج سوى أن يرضيه، يومها أمره أن يزحف داخل طرقات دورة المياه، يومها أسرع إلى أبيه، وقال لن أذهب مرةً أخرى، لقد كان أبوه من أبطال أكتوبر الحاصلين على وسام الجمهورية والحاصلين على نوط الشجاعة، ودارت الأيام دورتها، وتعاقب الزمن، ومات السند، والده الكريم، وقبله بعامين ودَّعت الكريمة أمه الحياة، وتقلبت الأيام، ولما قرأتُ نبأَ اعتقاله هزَّني ذلك، فأسرعت أتصل هاتفيًّا؛ حتى يسَّرَ الله لي أن أهاتفه، وتحدثت معه، فوجدته مبتسمًا، فقلت له صبرًا أيها الحبيب، وتذكرت قول ربي جل وعلا: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)﴾ (إبراهيم).
لو بلغ بنا الأذى مبلغه، لو قيدونا، وسجنونا، لو اختطفونا من بين أبنائنا، وزوجاتنا، وأهلينا، لو روعوا الصغار، ولو تطاولوا على حرمات بيوتنا، فلا يزيدنا ذلك إلا صبرًا..
أيها الحبيب أذكرك بقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)﴾ (الطلاق).
ولعلَّ ما يريح القلب وتسكن إليه النفس، قول الله عز وجل: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾ (التوبة).
والحقيقة أن من سلَّم لله أمره، واستسلم وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله تعالى له هو أسعد الخلق على ظهر الأرض.
أوصيك أيها الحبيب بدعاء سيدنا يونس عليه السلام: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)، وأكثر من قول (حسبنا الله ونعم الوكيل).
إن في الصلاة راحة القلب، وسلامة النفس، وسكينة الجوارح، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)﴾ (البقرة).
عليك بسهام الليل، عليك بالدعاء، فإنه سِرٌ من أسرار تمكين الله عز وجل للعبد.
اطرق باب ربك بدعوات في جوف اللليل، وركعاتٍ في ظلام الليل، أسلم لله قياد أمرك، وأخلص لله نيتك ودينك، وتذكر أخي نفسك وإخوانك بدعوات بظهر الغيب؛ فإنَّ العبد أقرب ما يكون من ربه حين تنزل به المحنة، ويحل عليه البلاء، فلا تنسنا يا أخي أنت من دعائك، تمسك بحبل ربك واسأله التثبيت، وعليك بدعاء حبيبك محمد "يا مقلِّبَ القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك"، قال الله تعالى:
﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾ (العنكبوت)، وقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (214)﴾ (البقرة)، وكان التأكيد أشد في قوله: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)﴾ (آل عمران).
إنه طريق الرسل والأنبياء، طريق الصادقين، طريق ليست مفروشة بالورود ولا الرياحين؛ لكنها مفروشة بجهاد المجاهدين، فثباتهم على الطريق انتصار لهم، ومضيهم قدمًا في دعوتهم رغم ما يحاك بهم من غير تراجع دفقة في شرايين الأمة، وسيعلم الظالمون حين تطول وقفتهم بين يدي الله تعالى في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، كم من جرم ارتكبوه يوم اقتحموا البيوت على رءوس أصحابها، يوم روعوا الأطفال، وانتهكوا حرمات البيوت، في وقت يرتعُ فيه قتلةُ الشعب آمنين، يُحبَس أصحاب الدعوات، ويُطلَق اللصوص، إنها شريعة الغاب في زمن انقلب فيه الهرم، فأصبح الشريف متهمًا، وأصبحت السجون مأوى لخيرة أبناء الأمة.
إن سجَّانك يا أخي مسجونٌ خلف قضبان سلطانه، ومخدوع بمن حوله، إنه محبوس في نفسه، أمَّا أنتَ فليس لأحدٍ على روحك سبيل أو سلطان إلا خالقها.
التفتْ إلى مَن حولك مِن الناس جميعًا؛ هل تجد فيهم إلا مصابًا، أو مبتلى، أو مهمومًا، أو مغمومًا؛ إما بفقد حبيب، أو بغياب عزيز، أو بنزول مرض، أو بسماع فاجعة، أو بغيرها من البلايا، ولا يعني هذا غضب الله عليهم، ولقد كان أكثر الناس بلاء الأنبياء، والسائرون على دربهم يتعرضون لما تعرضوا لهم، إنه استعلاء الروح فوق كل ما يكدر صفوها، وما ينغص عليها سبيل سعادتها، وغدًا يرى الظالمون سوء فعلتهم، فيا كل مَن أوذي، يا كل مَن ظُلم، يا كل من قُهر، يا كل من أصيب بمصيبة، يقول الله تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)﴾ (الشعراء).
صبرًا أخي في محنتي وعقيدتي ***** لا بد بعد الصبر من تمكين
ولنا بيوسف أسوة في صبره ***** وقد ارتمى بالسجن بضع سنين
هون عليك الخطب لا تعبأ بهم ***** إن الصعاب تهون بالتهوين
ستسير فلك الحق رغم أنوفهم ***** ويذل كل منافق وجبان
بالله مجراها ومرساها ***** فهل تخشى الردى والله خير ضمين
سنعود للدنيا نطب جراحها ***** سنعود للتكبير والتأذين
يقسم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الفرج قريب وأن النصر آتٍ، حيث رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أشد المواطن، وفي يوم يُعدُّ من أحلك الأيام؛ حيث تجمع عليه الأحزاب من كل صوب وحدب وهو يوم الخندق الذي قال الله فيه: ﴿ِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَ (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا (11)﴾ (الأحزاب)، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليفرجنّ الله عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنًا، وأن يدفع الله عزَّ وجلَّ إليَّ مفاتيح الكعبة، وليهلكنَّ الله كسرى وقيصر ولتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله".
قال مسروق رحمه الله: كان رجل بالبادية له حمار وكلب وديك، وكان الديك يوقظهم للصلاة، والكلب يحرسهم، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم الخيام؛ فجاء الثعلب فأخذ الديك، فقال الرجل: عسى أن يكون خيرًا، ثم جاء ذئب فمزق بطن الحمار وقتله، فقال الرجل: عسى أن يكون خيرًا، ثم أصيب الكلب بعد ذلك، فقال الرجل: عسى أن يكون خيرًا، ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سبي من كان حولهم، وبقوا هم سالمين، وإنما أُخذَ هؤلاء بسبب أصوات الكلاب والحمير والديكة، وكانت نجاتهم في هلاك ما عندهم.
صبرًا أخي... فدولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.