د. حلمي محمد القاعود

في المسافة بين بيتي والمسجد الذي أحضر فيه صلاة الجماعة، رحت أتأمل وأنا أسير على مهل، متوكئًا على عصاي؛ لافتات ورقية لم أرها من قبل، كانت اللافتات أقرب إلى اللوحات الورقية، مكتوب عليها عبارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه "وما الأقصى إلا كمكة"، وفي اللوحة صورة للكعبة وقبة الصخرة، حمدت الله أن قرية صغيرة عرفت مثل هذه اللوحات في ظل القمع الذي لم يترك مجالاً للتنفس، أو التعبير عن تضامن الشعب المصري العربي المسلم مع أرض القداسات والأنبياء ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى العالم الأعلى!!!.

 

كانت الأنباء تتوالى منذ الخميس الماضي عن اعتقالات للعناصر الإسلامية التي يحتمل مشاركاتها في التظاهرات السلمية، عقب صلاة الجمعة بالمساجد المصرية، من أجل القدس والمسجد الأقصى.

 

كان الأمر لافتًا وغريبًا، فالحكومة تترك الملايين يتظاهرون احتفالاً بكسب مباراة رياضية، ولكنها تنزعج ويركبها العصبي حين تعلم أن هناك مظاهرة تضم بضع عشرات أو مئات من أجل القدس أو الأقصى أو فلسطين، فتقوم بالنيابة عن العدو باستخدام العصا الغليظة لقهر الشعب المصري، وتحقيق الانتصار عليه، وهزيمته هزيمة ساحقة، ويتوافق قمعها مع مقالات أبواق النظام من الذي أدمنوا الكذب والردح المصفي لوصف الفلسطينيين بأوصاف بذيئة، واتهامهم بأنهم سبب ما يجري، وما يقوم به الغزاة القتلة من تهويد للأقصى واستيطان في أرجاء الأرض المباركة.

 

لا ريب أن اللوحات الورقية التي رأيتها على الحوائط دليل ينبئ عن استمرار المقاومة في قلب الهزيمة الداخلية التي صنعها التواطؤ العربي مع القوة الوحشية اليهودية، والدعم الاستعماري الصليبي بقيادة الولايات المتحدة، ولا تخدعنك البيانات التي تصدر أحيانًا، وتستنكر أو تشجب أو توبخ؛ فما هي إلا حالة من النفاق الذي يغطي عورة اللصوص وشركاء الجريمة!

 

هل ما يحدث من قمع واعتقالات يعني مثلاً أن اليهود سيوقفون تهويد القدس ويمتنعون عن الاستيطان وإقامة المساكن المغتصبة لليهود الغزاة الذين يجلبونهم من شتى بقاع الأرض، بينما خمسة ملايين لاجئ ونازح فلسطيني، لا يعرفون لأنفسهم بيوتًا أو محل إقامة وطني مثل بقية خلق الله في شتى أرجاء العالم؟

 

أبدًا.. فالقتلة الغزاة النازيون اليهود يعلمون جيدًا أنهم واثقون تمام الثقة أن الحكومات العربية والإسلامية لن تحرك ساكنًا، وأنها تتواطأ مع العدو على ابتلاع الأرض الفلسطينية في الكرش اليهودي الذي لا يمتلئ؛ يستوي في ذلك من علت حنجرته ومن بلع لسانه.

 

وفي الوقت الذي يقوم فيه القتلة الغزاة اليهود بضم المقدسات الإسلامية في الخليل والقدس مثل الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال إلى ما يسمى "الآثار اليهودية"، كانت حكومة القاهرة الإسلامية تقوم بترميم المعابد اليهودية بشكل مريب ولافت، وانتهت مؤخرًا من ترميم معبد موسى بن ميمون اليهودي بخمسة عشر مليونًا من الجنيهات من عرق الشعب المصري المسلم الفقير!

 

حكومة الغزو النازي اليهودي تهدم مسجد سلمان الفارسي في القدس العتيقة لتبني كنيس الخراب اليهودي؛ تمهيدًا لهدم الأقصى وبناء ما يسمى الهيكل! وحكومة مصر العربية المسلمة تسمح لليهود الغزاة أن يقيموا في القاهرة احتفالاً يثير الاشمئزاز والسخط من جانب كل حر يملك ضميرًا إنسانيًّا يرى القتلة وهم يتناولون الخمور ويسكرون ويعربدون، وقد برر فاروق حسني ما فعله اليهود، وشبهه بالذكر عند المسلمين! ورفض موقف نائبه زاهي حواس من غضب على السلوك اليهودي ("المصري اليوم" 16/3/2010م ).

 

والأدهى من ذلك أن القتلة الغزاة يتجاوزون السلطة المصرية ويتجاهلونها، وهي التي كانت تعد لافتتاح المعبد رسميًا، ويقومون بأنفسهم بتدشين الافتتاح والاحتفال؛ إن رئيسة الجالية اليهودية المصرية جعلت من نفسها زعيم دولة لا يعترف بدولة مصر العريقة، ولا يعبأ بنظامها، واستضافت اليهود الأكثر تطرفًا القادمين من فلسطين المحتلة من جماعة الحبدا، وافتتحت المعبد بنفسها وأقامت الاحتفالات والليالي الملاح!

 

لقد أبرزت وسائل الإعلام الصهيونية، كما نشر موقع "بر مصر" في 12/3/2010م، خبر  وصول وفد من الحاخامات القتلة التابعين لحركة حبدا اليهودية المتطرفة جدًّا للمرة الأولى إلى مصر، في إطار احتفال الجالية اليهودية المصرية بتدشين معبد موسى بن ميمون. وأشارت وسائل الإعلام الصهيونية إلى أنه بعد أيام من زيارة هذا الوفد إلى القاهرة؛ أعلن فاروق حسني وزير الثقافة المصري ترميم باقي المعابد اليهودية في مصر!، ثم نشر الموقع الرسمي للحركة "حبد أون لاين" صورة كبيرة، ظهر فيها الوفد المكون من 10 حاخامات  فور وصولهم لمطار القاهرة مرفقة مع تقرير مراسلها في القاهرة حاييم بارون عن تدشين المعبد.

 

وبعنوان "نتائج زيارة الحاخامات للقاهرة: حسني يعلن ترميم كل المعابد" قال "حبد أون لاين": إن فاروق حسني وزير الثقافة المصري  فجر مفاجأة أدهش بها الأوساط اليهودية عندما أعلن نية الحكومة المصرية ترميم كل المعابد بمصر، وكان حسني قد صرَّح مؤخرًا أن القاهرة تتحمل نفقات ترميم كافة الآثار اليهودية شأنها شأن باقي الآثار المصرية، على أساس أن المعابد اليهودية الموجودة في مصر هي جزء من التراث الحضاري المصري،  يجب الاهتمام بها وترميمها بشكل دوري! (تأمل الكرم المصري في وقت تتجلى فيه الخسة اليهودية بهدم مسجد سلمان الفارسي واقتحام الأقصى والتمهيد لهدمه؟).

 

وأشار موقع حبد اليهودي المتطرف إلى أن "نبوءة" القادة اليهود المتطرفين بترميم كل المعابد اليهودية في مصر قد تحققت أخيرًا، وذلك بإعلان حسني نية حكومته ترميم كل المعابد داخل الدولة المصرية!!

 

بالطبع كان العرب مشغولين بزوابع زيارة السيد جون بايدن نائب رئيس الولايات المتحدة؛ حيث عدوا الإعلان عن الاستيطان في القدس والضفة الغربية في أثناء زيارته لفلسطين المحتلة صفعة داوية على قفاه وقفا حكومته، ولكن الرجل كان كريمًا مع حكومة القتلة اليهود، فقد زار الأماكن المهمة عندهم، وأعلن في محاضرة طويلة بجامعة تل أبيب؛ أنه يحب اليهود وأنه صهيوني صميم، وكان يتمنى أن يكون يهوديًّا ليكون أكثر صهيونية، وأن الإرهابية الهالكة جولدا مائير احتضنته مثل أمه، وعلمته كيف يحب الصهيونية، وأنها أخبرته أنها تملك سلاحًا سريًّا عقب حرب 1967م!!

 

وانشغل العرب بما قيل عن توبيخ السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية للسفاح اليهودي نتنياهو بسبب موضوع الاستيطان في القدس والضفة، وأن الأخير أعلن أسفه لإعلان نبأ الاستيطان في أثناء زيارة بايدن؛ حيث لم يكن الوقت مناسبًا للإعلان عن الخطط الاستيطانية!!

 

ونسي العرب والمسلمون أن السيد بايدن لم يكف في رحلته إلى فلسطين المغتصبة عن إعلان التزام دولته التي تقود المؤسسة الاستعمارية الصليبية بأمن الصهاينة، وأنه قال في محاضرته بتل أبيب التي سبقت الإشارة إليها إن الإدارات الأمريكية المختلفة، مهما تغيرت، تقف مع الكيان الصهيوني "كتفاً إلى كتف"!.

 

وما التوبيخ والغضب الأمريكي إلا نوع من العتاب اللذيذ بين الحبيب وحبيبه، وأن الضحية العربية يجب أن تفيق من خدر الحلم غير اللذيذ بأن الولايات المتحدة يمكن أن تصنع السلام أو تساعد على إعادة الحقوق إلى أصحابها.

 

لا أقول هذا الكلام للحكومات العربية والإسلامية، ولكن أقوله للشعوب العربية والإسلامية التي يجب عليها أن تنهض بكل وسيلة متاحة للمقاومة، وحصار العدو ماديًّا ومعنويًّا.

 

لقد ذكر موقع "أمجاد يا عرب" أنه بعد مضي أربعة شهور تقريبًا على قرار نتنياهو بشأن تجميد الاستيطان لمدة عشرة أشهر، ذكر مسئول صهيوني بأن رئيس الوزراء اليهودي، قال في جلستين مغلقتين مع وزراء حكومته، وفي جلسة أخرى مع كبار قادة المستوطنين بتاريخ 25 ديسمبر 2009م، بأن القرار الذي اتخذه من أجل وقف الاستيطان في مستوطنات الضفة لمدة عشرة أشهر سيؤدي في نهاية الأمر إلى ضم القدس الشرقية للكيان الصهيوني لتصبح قلبًا وقالبًا للعاصمة الأبدية الموحدة للشعب اليهودي.

 

وأضاف قائلاً: هدفي أن تصبح أحياء القدس الشرقية أحياء مختلطة بين الفلسطينيين واليهود، كما هو الوضع في حيفا ويافا؛ حيث سيصعب على السلطة الفلسطينية الحالية أو من سيأتي بعدها المطالبة بشيء اسمه القدس الشرقية، فالواقع بعد عشرة أشهر؛ سيكون قد تغير كليًّا في القدس، وسيصعب على الفلسطينيين المطالبة بشرقي القدس لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية!

 

وليت الحكومات العربية والإسلامية تتوقف عن التعلق بأوهام السلام الموهوم، وتقول لشعوبها: لن نستطيع إعادة جزء ولو بسيط من حقوق العرب والمسلمين في الأرض المقدسة، وفي المقابل لن نفاوض في المجهول، ولن نتعامل مع الغزاة اليهود القتلة، واصنعي يا شعوبنا العربية الإسلامية ما تقدرين عليه، ساعتها سنقول: شكرًا أيتها الحكومات الصادقة التي اعترفت بالحقيقة بعد أن هزمت شعوبها قبل أن يهزمها العدو النازي اليهودي في فلسطين المحتلة!

------------

[email protected]