عندما تصاعدت نبرة الحديث عن قرب انفصال جنوب السودان في استفتاء 9 يناير المقبل 2011م وتعاظمت المؤشرات باتجاه هذا الانفصال وتحدث الرئيس السوداني عمر البشير عن احترامه إرادة الجنوبيين في الانفصال والاعتراف بدولتهم الانفصالية أقلق هذا التوجه السوداني القاهرة وأزعجها، وطلبت استيضاح الموقف من الخرطوم، فحضر نائب الرئيس علي عثمان طه في شهر فبراير الماضي لطمأنة المسئولين المصريين.

 

مصادر سودانية رفيعة مطلعة أكدت أن الخرطوم طمأنت القاهرة بأن فرصة الانفصال ليست كبيرةً كما يروِّج أنصار الحركة الشعبية المتمردة ومسئول  بحزب المؤتمر الحاكم في السودان أبلغ المجتمع أيضًا بأن هناك نشاطًا كبيرًا للحزب في الجنوب ونشاطًا لمسلمي الجنوب والقبائل والعشائر المناوئة لقبيلة الدينكا ولحركة التمرد الحركة الشعبية الحاكمة، وأن حصيلة كل هذا ستكون تصويت60% من الجنوبيين للوحدة لا الانفصال.

 

وقد ألمح لهذا ضمنًا أيضًا علي عثمان طه، نائب البشير، خلال لقائه مع الصحفيين وقانونيين مفكرين مصريين بالقاهرة في فبراير الماضي، عندما قال إنه تداول مع الرئيس مبارك والقيادة المصرية كلَّ احتمالات استفتاء تقرير مصير الجنوب الوحدة أو الانفصال المقرَّر في يناير المقبل، وترتيبات الوحدة والانفصال في السودان من جهة تأمين الوحدة بصورة أساسية، مشدِّدًا على أن فرص بقاء الوحدة كبيرة ومقدرة ولكنها ليست نهائية، وأن الرئيس مبارك تحدث معه عن الدعم المصري والعربي بما يؤدي إلى وحدة السودان.

 

وأكدت مصادر سودانية مطلعة في الوفد السوداني الذي رافق نائب الرئيس السوداني أن زيارة علي عثمان طه استهدفت طمأنة القاهرة القلقة بشكل كبير من انفصال الجنوب، وتأثيره على أمنها المائي والقومي، وأنه قدم تنويرًا للقيادة المصرية حول الانتخابات والاستفتاء واحتمالات انفصال الجنوب ودور القوى الدولية في الضغط على السودان لتفتيته.

 

هذه الطمأنة السودانية لمصر جاءت بعد تحذير وزير الدولة للشئون القانونية د. مفيد شهاب من انفصال جنوب السودان في إطار الاستفتاء المقرر إجراؤه العام المقبل، مشيرًا إلى أن الانفصال سيؤدي إلى اضطرابات تؤثر على أمن مصر.

 

وقال إن الانفصال حال حدوثه سيجرُّ الطرفين إلى صراعات مستقبلية بين البلدين، وستكون للانفصال آثاره الضارَّة أيضًا على مصر؛ لأن هذا معناه نذير لبدء حالة من الاضطراب بين البلدين ستؤثر على الأمن المصري.

 

وما قاله الوزير المصري معبرًا عن حالة القلق الرسمية المصرية فسَّره نائب الرئيس السوداني علي عثمان طه عندما تحدث في القاهرة عن انفصال الجنوب في إطار الاستفتاء، قائلاً: إنه سيؤدي إلى أخطار كبيرة وسيكون قفزة في الظلام؛ لأن الجنوب لا يمتلك الخبرة الإدارية الكافية، ومن المؤكد أنه سيكون كيانًا مغلقًا، وستكون فيه الكثير من المشكلات.

 

ظاهرة معدية

وكان د. أسامة الباز قد حذر سابقًا من أخطار تقسيم السودان، وأكد سعي مصر للمحافظة على حدود الدول الإفريقية، وقال: إن السماح بتجزئة بلد كالسودان إلى جزءين سيكون ظاهرة معدية قد تمتد إلى دول أخرى مجاورة على أساس قبلي ولغوي وديني؛ الأمر الذي يؤدي إلى خلق حالة كبيرة جدًّا من عدم الاستقرار والفوضى في المنطقة.

 

كما أكد سلفاكير ميارديت النائب الأول للرئيس السوداني ورئيس حكومة جنوب السودان عقب زيارته الأخيرة للقاهرة أن مصر تخشى من انفصال جنوب السودان عن شماله، وحمَّل مصر والعرب مسئولية هذا الانفصال لو حدث، بقوله: إن ما فعلته القاهرة من أجل وحدة السودان كان بسيطًا، ومن يرد أن يقنع الجنوبيين بالوحدة فعليه أن يعمل من أجل ذلك، رغم أنه سيكون عملاً في الوقت الضائع.

 

وأضاف: إذا حدث الانفصال فعلى العرب عدم إلقاء اللوم على الحركة الشعبية أو حكومة الجنوب، وأن يرجعوا أنفسهم؛ لأنهم لم يفعلوا شيئًا تجاه إقناع الجنوبيين بالوحدة الجاذبة مع الشمال.

 

المياه خط أحمر

وترفض القاهرة بقوة مسألة انفصال الجنوب لعدة أسباب؛ أبرزها المياه وأخطار أن يصبح الجنوب الدولة الثامنة في الخلاف مع مصر بمنطقة حوض النيل.

 

ويؤكد عدد من الخبراء أن انفصال جنوب السودان قد يشكِّل خطورةً على حصة مصر من مياه النيل، خصوصًا أن القاهرة تسعى إلى الإنفاق مع الجنوب على بناء قناة جونجلي؛ بهدف اقتسام ما ستوفِّره من المياه بين البلدين، وهو ما ترفضه حكومة الجنوب؛ بدعوى أنه سيؤدي إلى تجفيف مناطق في الجنوب وتضرّر السكان وعدم استفادة الجنوب بالمقابل من بناء هذه القناة، وهو أمرٌ تستخدمه الحركة الشعبية والكيان الصهيوني معًا كأداة لمساومة مصر.

 

ولكن.. ما الذي تريده القاهرة من الخرطوم في المرحلة الراهنة؟!

 

من الواضح أن القاهرة تريد تحديد مستقبل مشروع قناة جونجلي المشروع المتعثر منذ عام 1983م رغم حفر 50% من القناة، والذي سيوفر لمصر والسودان بين 7: 12 مليون متر مكعب من المياه سنويًّا تضيع هدرًا في مستنقعات الجنوب، كما ترغب القاهرة في أن تمارس دورًا في مسألة تقرير المصير والمساهمة في تحويل الرغبة في الانفصال إلى رغبة في الوحدة.

 

وليس سرًّا أن القاهرة تقيم علاقاتٍ جيدةً مع الجنوبيين في جامعاتها؛ حتى إن نسبةً كبيرةً من الأربعة ملايين سوداني المقيمين بالقاهرة يرتفع بينهم العنصر الجنوبي بمقدار قد يصل إلى الربع.

 

أما أهم قضية تهم القاهرة فهي مسألة تأمين الجنوب، سواء انفصل أم لا، من الوجود الصهيوني؛ إذ تخشى القاهرة من أن يصبح الجنوب مرتعًا للصهاينة في حال انفصاله.

 

وقد أعرب مسئول سوداني عن تفهمه لوجود تحفُّظ مصري واضح وهاجس كبير بشأن قضية تقرير المصير وفصل الجنوب؛ لأن قيام دولة في الجنوب معناه تمكين الكيان الصهيوني من الوجود هناك؛ بما يعني تهديد الأمن القومي المصري.

 

مخاوف عديدة

وبشكل عام يمكن إيجاز المخاوف المصرية من فصل الجنوب في أربعة أمور، هي:
1- الانفصال معناه تحويل جزء من امتداد الأمن القومي المصري بعيدًا عن السيطرة المصرية؛ بما يفتح الباب لسيطرة وتدخل العدو الصهيوني أو حتى دول أخرى مجاورة معادية للمصالح المصرية بحجة تقديم المساعدة للدولة الجديدة.

 

2- الانفصال معناه تهديد حصة مصر من مياه النيل 5 مليارات متر مكعب مقابل 18 مليار متر مكعب للسودان، خصوصًا أن حركة التمرد تتحفَّظ على الحصة المصرية الكبيرة، وتطلب اتفاقًا جديدًا، كما أنها تريد بيع مياه النيل والاستفادة منها على غرار ما تفعله تركيا، ولا ننسى هنا أن زعيم حركة التمرد السابق جون جارانج نال درجة الدكتوراه من جامعة أيوا الأمريكية عام 1981م عن أثر قناة جونجلي على المواطنين المحليين.

 

3- هناك قلق مصري من انحراف الخرطوم في الانصياع للخطط الأمريكية، والتنسيق مع واشنطن فيما يتعلق بالجنوب؛ بما يعني تجاوزًا لدور مصر، وابتعادًا تدريجيًّا بين البلدين، خصوصًا أن العلاقات ما زالت متوترة نسبيًّا بينهما، ومبعث القلق أن الوجود الصهيوني يحل أينما كان الوجود الأمريكي.

 

4- خوف الحكومة المصرية من سيطرة الإسلاميين على الحكومة في شمال السودان، ويقول أحد الدبلوماسيين الغربيين إن مصر لا تخشى فقط من أن يؤدي قيام دولة في الجنوب إلى مزاحمتها على المياه، وإنما تتخوَّف من أن يسفر ذلك عن قوة دفع للإسلاميين في شمال السودان.

 

وما يقصده الدبلوماسي الغربي هو أن عدم استقرار الحكم في السودان الذي يرفع شعار الإسلام والشريعة كان لمصلحة مصر؛ ما دفع حكومة الخرطوم إلى الاعتماد على مصر ومساندتها، ولكنَّ حلَّ مشكلة الجنوب وزيادة إنتاج النفط سوف يرفعان من شأن وقوة السودان وحكومته، وهو ما يعني زيادة نفوذ الإسلاميين على حدود مصر الجنوبية.

 

القاهرة تريد بالتالي أن تسفر الانتخابات عن رئيس قويٍّ مسيطر؛ هو الرئيس عمر البشير، الذي تدعمه بقوة كي يحفظ للسودان وحدته واستقراره، كما تريد برلمانًا مستقرًّا وولاياتٍ مستقرةً في السودان؛ بما يمكنه من تجاوز عقبة استفتاء يناير 2011م بسلام وبدون انفصال.

------------

* بالاتفاق مع "المجتمع".