اعتاد العالم بأسره رؤية مائدة المفاوضات التي تجمع بين الفلسطينيين والصهاينة على مدار عشرات الأعوام الماضية تنتهي إلى "لا شيء"؛ ليعلن كل مفاوض عودته من حيث أتى خاوي اليدين.

 

وجاءت صفقة "تبادل الأسرى" لتبدل هذه الصورة وتقلب كل الموازين رأسًا على عقب، وتقدم نموذجًا فريدًا لنجاح "سياسة التفاوض"، ولكن ليس كل التفاوض تفاوضًا؛ فالجلوس على مائدة مفاوضات بأهداف سامية ومن منطلق قوة يعزز ويضمن نتيجتها.

 

وعلى عكس المفاوضات السابقة بين الجانبين، والتي كانت تنتهي بتعليق الحوار أو رفض بعض المطالب أو تعنت رغبات جانب من مصلحته أن يبقى الوضع معلقًا؛ جاءت صفقة تبادل الأسرى التي بدأت أولى مراحلها أمس لتجسِّد نموذجًا مضيئًا في تاريخ علم السياسة الدولية والتفاوض؛ بأن يصرَّ طرف على استرداد جندي واحد اختفى تحت يد الحمساويين لسنوات عديدة، تمَّت معاملته من خلالها بأخلاق الفرسان النبيلة، في حين أن الطرف الثاني يتمسك بتحرير آلاف الأسرى؛ فقط لأنه يؤمن بأن وجودهم وسنوات عمرهم التي قضوها خلف القضبان يجب أن تكون نهايتها مكللةً بالحرية؛ ليستقبلهم الآلاف والملايين في العالم العربي والإسلامي وحتى الغربي في مشهد لن ينساه التاريخ.

 

من بين الأسرى فتحاويون وحمساويون، ومن بينهم من يعشق حركة حماس، ومنهم من ينأى عن الاقتراب منها؛ لاختلافه أيديولوجيًّا أو سياسيًّا معها، ولكن حين جلست حركة حماس على مائدة المفاوضات لم تفرق بينهم، فمن حق الجميع تنفس عبير الحرية ونسيمها، ليتفرغ الجميع للتفاوض الأكبر من منطلق قوة "الوحدة" بين أبناء الوطن الواحد ضد كيان لا بد أن يزول.

 

الرعب الذي سيطر على قادة الكيان الصهيوني وعصابات جيشه وأركان حربه من تكرار قصة "جلعاد شاليط" كان "مادة خام" وورقة ضغط استخدمها الحمساويون لإعادة النسيج بين أبناء الوطن الواحد، لا فرق بينهم.. بين فتحاوي أو حمساوي، بعد أن اتضح للجميع أن هدفهم واحد وأن من كان يقف وراء الخلاف هم قادة عرب، زالوا كما سيزول الكيان، خاصةً بعد أن توجت المصالحة بين الحركتين بنجاح على كل الأصعدة، بعد أن عاد للعرب "مصر الثورة".

 

رجال حماس داخل السجون والمعتقلات بالآلاف، ولكن حين فاوضت حماس فضَّلت الحديث عن تحرير النساء والأطفال أولاً؛ لتكون بين المحررين الأسيرة أحلام التميمي، الحمساوية، وخطيبها نزار، الفتحاوي؛ كي يهنأ كلاهما بزواج سعيد في ظل الحرية وليضربا نموذجًا للأسرة الفلسطينية التي تحترم اختلاف أيديلوجيات كل طرف منها؛ ليبقى الفلسطينيون عامةً والحمساويون خاصةً مدرسة تعلم الأجيال كل المعاني التربوية والسياسية.

 

المطلوب يا سادة هو تدريس قيم الشعب الفلسطيني وحركة حماس؛ ليبقى دائمًا هناك هدف يسمَّى "أخلاق وقوة التفاوض"، يغلف أية مفاوضات قادمة، سواء بين الطرفين أو في أية أزمات دولية وعربية، ولكم في صفقة تبادل الأسرى "أسوة حسنة".