هناك نفوس كثيرة  أصابها ضرر بالغ من نتائج هذه الانتخابات وإقناعها بقبول تلك النتائج، والتعاون في بناء مصرنا الجديدة من أصعب التحديات التي ستواجهنا!.

 

بعض العلمانيين يجلسون مع الصهاينة بكل مودة, ويدعون للتطبيع مع العدو الصهيوني, لكنهم اليوم يستنكفون الجلوس مع أشقائهم المصريين الذين يخالفونهم التوجه السياسي!.

 

سبق لي الكتابة في هذا المكان تحت عنوان: (حديث إلى العلمانيين الفضلاء)، دعوتهم مع إخوانهم الليبراليين الفضلاء أيضًا إلى الاعتراف بنتائج الانتخابات، والاحتكام إلى صناديقها الشفَّافة التي وضعت فيها أصوات المصريين الشرفاء، تحت إشراف قضائي كامل، ودون تزوير أو تزييف!.

 

لكن هؤلاء الفضلاء من العلمانيين والليبراليين وبعض القوميين الذين لم يوفقوا في الانتخابات البرلمانية التي جرت مؤخرًا لا يتوقفون عن التشكيك في نتائجها أو في مقدماتها، بل يدعو بعضهم الآن في برامج ومنتديات إلى رفض فكرة الانتخابات؛ بدعوى أن الديمقراطية وصناديقها ربما لا تكون  الأسلوب الأمثل لدولة مثل مصر!!، والدليل على ذلك أن الديمقراطية الأمريكية أتت ببوش الابن رئيسًا!!.

 

جمعتني مع بعض هؤلاء الفضلاء- العلمانيين والليبراليين- ندوة نظَّمتها مجلة "الديمقراطية" بمؤسسة الأهرام الثلاثاء الماضي، وأدارتها الدكتورة هويدا مصطفى، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، وكان من بين الحضور أيضًا عدد من السادة القضاة؛ الذين شاركوا في العملية الانتخابية، من بينهم المستشار يسري عبد الكريم، رئيس المكتب الفني للجنة العليا للانتخابات، وعلى مدى ثلاث ساعات قدم المشاركون رؤيتهم وتقويمهم لنتائج المرحلتين الأولى والثانية، ولم تخلُ المناقشات من حدَّة في الطرح، أو انفعال من البعض، وتشكيك من البعض الآخر؛ لدرجة اتهام بعض القضاة بالانحياز للإخوان المسلمين!!.

 

وعندما تكرر هذا الاتهام بعدة أشكال انفعل أحد القضاة المشاركين، وقال إن القضاة يؤدون واجبهم بأمانة، ولا ينحازون لأحد، وأضاف: أذكِّركم أنه في العقود الماضية لم تسمح التقارير الأمنية  بتعيين أحد في الهيئة القضائية، ولو كان معاونًا للنيابة له قريب أو نسيب من التيار الإسلامي حتى الدرجة الرابعة!!.

 

ولضيق المقام هنا أكتفي بتسجيل بعض المناقشات التي دارت بين المشاركين الفضلاء:

شارك في الندوة المفكر العلماني الدكتور مراد وهبة، أستاذ الفلسفة المخضرم (86)؛ الذي يعتبره تلامذته  من أبرز دعاة العلمانية في النصف الثاني من القرن العشرين!!، والذي قال إن الانتخابات أوضحت أن مصير مصر أصبح مرتبطًا بالأميِّين؛ لأن معظم الذين انتخبوا الإسلاميين أميون!!، وبالتالي فإن  الانتخابات كآلية من آليات الديمقراطية قد لا تكون مناسبةً لظروف دولة كمصر، ولا بد أن نفكر في آلية أخرى غير آلية الانتخاب!!.

 

أشفقت على الأستاذ الكبير الذي عركته السنون الطوال وقلت له لو أن هذه الديمقراطية قد جاءت بحزب الوفد أو أحزاب الكتلة المصرية لرحَّبت بها ولوصفتها بأجمل الأوصاف، أما وقد جاءت بمخالفيك فأنت تطالب اليوم برفضها، تمامًا مثلما كانت تفعل الأنظمة المستبدة، والتي كانت تتحدث عن الديمقراطية، ولكنها كانت دائمًا تريدها ديمقراطية بلا إسلاميين!!.

 

وتذكرت مواقف الدكتور مراد وهبة- وهو بالمناسبة عضو تحالف كوبنهاجن- وكيف كان الرجل يجلس مع الصهاينة بكل مودّة، ويدعو للتطبيع مع العدو الصهيوني، لكنه اليوم يستنكف الجلوس مع أشقائه المصريين الذين يخالفونه التوجه السياسي؛ لا لشيء إلا لأن الديمقراطية الملعونة قد أتت بهم بليل وفي غفلة من المصريين الأميين أو الجهلاء، كما وصفهم أحد المثقفين المستنيرين!!.

 

والدكتور وهبة يتحدث عن نتيجة الانتخابات وكأنها جاءت مفاجئة لتوقعاته، رغم أنه ذكر في حوار سابق له- نشرته صحيفة "المصري اليوم" عام في مايو 2008- أن المزاج العام للشعب المصري يستطيع أن يصل بالتيار الإسلامي إلى السلطة إذا تمَّ إجراء الانتخابات بلا قيود!.

 

لكن ما خفَّف من حزني على الرجل أنني تذكرت جملة ذكرها في حواره المشار إليه؛ حيث قال: "..الحقيقة أن أكبر طبقة خائنة في المجتمع هي طبقة المثقفين، وأكثر من السلطة السياسية؛ لأن المثقفين لم  يؤدوا مسئولياتهم، سواء تجاه تنوير المجتمع، أو في الوقوف ضد الأصوليات العربية!.

 

فهل يراجع الدكتور وهبة مواقفه اليوم بعد أن فشل المثقفون العلمانيون في مهمتهم على مدى العقود الطويلة، ورغم الإمكانات التي أتاحتها لهم الأنظمة الديكتاتورية؟ أتمنى ذلك!.

 

ومن الذين تحدثوا في الندوة الناشط الحقوقي حافظ أبو سعدة، أمين المنظمة المصرية لحقوق الإنسان وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، والذي خاض الانتخابات ولم يوفق فيها، وقد شكك في نتائج الانتخابات، وقال: لا تحكموا على نزاهة الانتخاب وانتظروا نتيجة الطعون التي قدمت للمحاكم، كما أشار إلى أن منافسيه نجحوا بتقديمهم قطعة لحم وكيس أرز للناخبين!!، وفي هذا إهانة كبيرة للمصريين!.

 

كذلك تحدثت الناشطة الحقوقية نهاد أبو القمصان، مشككةً في نزاهة الانتخابات وإقدام الأحزاب الإسلامية على ممارسات غير قانونية ووسائل تأثير في الناخبين، وأشادت بالانتخابات اليمنية وأسبغت عليها الحيدة والنزاهة، أما الانتخابات المصرية فلا تساوي شيئًا إذا ما قورنت بشقيقتها اليمنية، ولقد ذكَّرت الأستاذة نهاد بأنها هي التي خالفت القانون، وأثّرت في إرادة الناخبين، عندما بثت برنامجًا تليفزيونيًّا عنوانه (ساعة مع شريف) على قناة (المحور)، وكان برنامجًا موجهًا ومدفوع الأجر، ولا أدري من الذي دفع الفاتورة؟ هل مركزها الحقوقي الذي تترأسه؟ الله أعلم، وكانت الأستاذة الفاضلة هي المتحدث الدائم بالبرنامج، وكانت دائما تحذّر من انتخاب الإسلاميين وتدعو لانتخاب خصومهم السياسيين، وأحيانًا تذكرهم بالاسم، هكذا وعلى الهواء مباشرةً!!.

 

ومن اللافت للنظر في هذه الندوة وفي كثير من المعالجات الصحفية أو  التليفزيونية خروج بعض الشباب الذين يقدمون أنفسهم على أنهم ثوار، مرددين فضلهم على الثورة، وتنكّر الشعب لهم بعد أن أخفقوا في الانتخابات!!، ونسي هؤلاء الشباب أنهم- وإن كانوا مشكورين- قد خرجوا في أيام الثورة الثمانية عشر، إلا أن غيرهم- من القوى السياسية الفائزة- قد خرجوا أيضًا في هذه الثورة بل وقبلها لمرات ومرات في مواجهة الاستبداد والطغيان، وقدموا لأجل ذلك التضحيات الكبار، وأن الشعب الوفي لم ينس لهم جهادهم وعطاءهم؛ الذي امتدَّ لعقود طويلة!.

 

إلا أن أهم ما خرجت به من هذه الندوة أن ثمة نفوسًا كثيرةً قد أصابها ضرر بالغ  من نتائج هذه الانتخابات، نرجو أن ننجح في إقناعها بقبول تلك النتائج، والتعاون في بناء مصرنا الجديدة، وذلك لعمري أصعب التحديات التي ستواجهنا!.

 

-----------

* [email protected]