بالرغم من أنه لم يتبق إلا أيام معدودة على موعد إجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية إلا أن الجدل ما يزال مستمرًّا حول هذه التعديلات بين مَن يؤيدها، وبين الرافضين لها، ومن الواضح أن الفريق الرافض للتعديلات قد استحوذ على معظم الساحة الإعلامية، والحقيقة أنني بعد قراءة متأنية للتعديلات وحجج الرافضين لها المطالبين بتغيير الدستور بأكمله، وإطالة أمد الفترة الانتقالية أجد نفسي مؤيدًا لهذه التعديلات لعدة أسباب:

 

1- إننا أمام خريطة طريق واضحة المعالم نعرف معالمها جيدًا ونعرف إلى أين تقودنا.

 

2- إن هذه التعديلات تقودنا إلى إنشاء مؤسسات منتخبة انتخابًا حرًّا تتوفر لها ضمانات النزاهة.

 

3- إن هذه التعديلات تعيد جوًّا من الهدوء والاستقرار المطلوب في هذه المرحلة.

 

4- إن هذه التعديلات تقودنا إلى وضع دستور جديد من خلال هيئة تأسيسية واستفتاء شعبي خلال فترة محددة لا تتجاوز عام وبضعة أشهر.

 

5- إن البدائل التي يطرحها المطالبون بدستور جديد- كما يعتقدون- الآن غير واضحة المعالم محددة الخطوات، فالبعض يطالب بتمديد الفترة الانتقالية، وهو ما يعني بقاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة فترةً أطول قد تصل إلى عام ونصف، وهو أمر له مخاطره، فمع التقدير لموقف المؤسسة العسكرية- وكلنا يتابع ما يحدث في ليبيا واليمن- إلا أن بقاء الجيش فترةً طويلةً أمر غير مستحب، ولعل الخبرات التاريخية تؤيد ذلك.

 

كما أن للجيش مهامه التي يجب أن يتفرَّغ لها، فلا يُعقل أن يتفرغ قادة الجيش للتنقل بين الأقباط أمام ماسبيرو والمعتصمين في قرية صول بأطفيح ومرافقة علماء الدين للقرية، ومواجهة المطالب الفئوية والاعتصامات والإضرابات التي لا تتوقف، خاصةً في ظلِّ التحديات التي نمرُّ بها على حدودنا الشرقية والغربية وفي الجنوب، فضلاً عن أن الجيش غير مؤهل للمهمة الثقيلة التي أُلقيت على عاتقه فجأةً ودون توقع.

 

والحل الثاني الذي يطرحونه كبديلٍ لبقاء الجيش، وهو إنشاء مجلس رئاسي مكون من ثلاثة أو خمسة أعضاء منهم عسكري واحد يثير كثيرًا من المشكلات، فعلى أي أساس سيُختار أعضاؤه؟ ومَن الذي سيختارهم؟ وماذا لو اعترض البعض على بعض الأسماء؟ وحتى لو تجاوزنا ذلك فمن سيكون رئيسه أم سيكون بالتناوب؟ وماذا لو اختلفوا فيما بينهم؟ فمن الذي سيكون له الحسم والكلمة الفصل؟

 

البديل الثالث الذي يطرحونه وهو انتخاب الرئيس أولاً, وهو في اعتقادي أسوأ الحلول على الإطلاق، وستكون بداية لصنع فرعون جديد، فمعنى انتخاب رئيس جديد هو تمتعه بالصلاحيات اللا محدودة التي يعطيها له الدستور المصري دون أي كابحٍ حتى يتم وضع دستور جديد، وقد يعمل على إيجاد قائمة له في الانتخابات البرلمانية، أو حتى تأسيس حزب، ولا يوجد في الدستور ما يمنع ذلك؛ ليضمن أن تكون أغلبية البرلمان معه.

 

ولو أخذنا بأي من هذه الحلول فمن الذي سيضع الدستور هل ستُشكل لجنة ثم يُستفتى عليه الشعب؟ ومَن الذي سيختار أعضاء اللجنة؟ وإذا أخذنا بانتخاب جمعية تأسيسة لوضع الدستور فيبقى السؤال لماذا تثقون في حسن اختيار الشعب المصري للجمعية التأسيسية ولا تثقون في حسن اختياره لأعضاء البرلمان؟!!

 

إن المعضلة الأساسية للمعترضين على التعديلات الدستورية هو الخوف من نتائج الانتخابات البرلمانية، وأن القوتين المنظمتين الآن- كما يعتقدون- هم الإخوان وفلول الحزب الوطني اللذان سيسيطران على البرلمان الجديد؛ ولذلك يجب إعطاء الأحزاب القديمة أو التي ستؤسس حديثًا الفرصة للعمل والتواجد، وهذا الطرح قد يبدو وجيهًا من الناحية النظرية، ولكنه لن يغير كثيرًا في الواقع من الناحية العملية، فلو توقفنا بالمناقشة أمام هذا الطرح، وإذا تجاوزنا ما يحمله هذا الرأي من عدم ثقة في وعي الشعب المصري، وما يعنيه ضمنيًّا من ترديد ما قاله كلٌّ من: أحمد نظيف، وعمر سليمان، من عدم نضج الشعب المصري، وأنه غير مهيَّأ للديمقراطية!!!

 

فسنجد بالنسبة للإخوان أنهم تحركوا وعملوا في ظلِّ الحكم الاستبدادي السابق، وتحملوا الكثير من التضحيات في الوقت الذي استسلمت أحزاب المعارضة، والتي كانت تتمتع بالشرعية القانونية للواقع، وهم الذين يخرجون الآن للاعتراض- وهذا حقهم- على التعديلات الدستورية، فلن يتأثر الإخوان كثيرًا سواء أجريت الانتخابات بعد ثلاثة أشهر أو بعد عام أو عامين، لقد ألزم الإخوان أنفسهم بعدم المنافسة على الأغلبية في الانتخابات القادمة بعد ثلاثة أشهر، ولو افترضنا- جدلاً- أنهم شعروا أنهم سيتأثرون لو أجريت الانتخابات بعد عام أو عام ونصف فيستطيعون أن يرفعوا نسبة مشاركتهم في الانتخابات بالدرجة التي تسمح لهم بتحقيق النسبة التي يسعون إليها لو أجريت الانتخابات في الموعد المحدد الآن.

 

أما الحزب الوطني فهو لم يكن يومًا من الأيام حزبًا بالمعنى المعروف للحزب، فهو لم يعد أن يكون حزبًا للسلطة، وتجمعًا لأصحاب المصالح، فإذا سقطت السلطة سقط الحزب، فالخوف من الحزب الوطني ليس له ما يبرره، فمن يجرؤ على الإعلان عن أنه مرشح الحزب الوطني، ومَن الذي سيعطي له صوته بعد هذا الكم من الفساد والفضائح التي تكشفت بعد سقوط هذا النظام، وعلينا ألا ننسى أن المرشحين تحت راية الحزب الوطني لم يحصلوا في انتخابات 2005م إلا على 33% فقط، أما المستقلون الذين كانوا يسارعون إلى الانضمام للحزب الوطني، فكان ذلك لتحقيق مصالحهم وحل مشكلات دوائرهم من خلال الحزب الذي يملك السلطة، ويرأسه رئيس الجمهورية، أم الآن فمن الذي سينضم لهذا الحزب بعد أن فقد السلطة، ومَن الذي سيسعى إليه للترشح على قوائمه وهو لا يملك له تزوير الانتخابات كما كان يحدث في الماضي.

 

إن الكثير من التخوفات نابعة من الممارسات التي كانت سائدة في العهد البائد دون إدراك للآثار التي أحدثتها الثورة، فهل يتصور أن الملايين التي خرجت في ربوع مصر تطالب بالتغيير، وشاركت في الثورة ستخرج يوم الانتخابات لتعيد الحزب الوطني للحكم مرةً أخرى؟!! لا شك أن الثورة سيكون لها تأثيرها- بدرجة أو بأخرى- على صورة البرلمان القادم، وعلى كلِّ القوى السياسية بما فيها الإخوان الذين سيواجهون تحديات كثيرة في الانتخابات القادمة، بالرغم من موقفهم الأقوى بين القوى السياسية الأخرى، فنسبة من الأصوات التي كان يحصل عليها الإخوان كانت أصواتًا احتجاجيةً على الحزب الوطني، وكذلك بعض الأصوات التي كانوا يحصلون عليها على أسس عاطفية، ولا يجب أن ننسى أن هناك أحزابًا جديدةً ذات مرجعية إسلامية ستكون منافسة للإخوان، ولذلك وبالرغم من صعوبة وضع تصور دقيق للبرلمان القادم، ومع عدم الإغراق والمبالغة في تقدير تأثير الثورة وأثرها على ثقافة وعقلية الشعب في اختيار ممثليه في البرلمان، يمكن القول إن البرلمان القادم سيمثل فيه الإخوان بكتلة برلمانية قد تصل من 20 إلى 25% إذا نزلوا الانتخابات؛ للمنافسة على نسبة 35% من المقاعد، أما النسبة المتبقية فستشغلها الأحزاب، وإن كان من الصعب أن يحقق حزب بمفرده نسبة كبيرة، والمستقلون الحقيقيون والذين لهم توجهات سياسية وفكرية، والذي عمل النظام السابق على إسقاطهم، ثم المستقلون الذين يتم انتخابهم على أسس قبلية وعشائرية أو اعتماد على سيرتهم الشخصية، والذين كانوا يترشحون في السابق تحت راية الحزب الوطني أو يسارعون بالانضمام إليه عقب فوزهم كمستقلين كحزب للسلطة ليس إلا، وكثير منهم على استعداد للهرولة للحزب الذي يمكن أن يمسك بزمام السلطة أيًّا كان اسمه وتوجهه.

 

لذلك أقول إن من الصعب تصور عودة فلول الحزب الوطني مرةً أخرى، وحتى على فرض تواجد نسبة لهم فلن تكون ذا قيمة، والشيء المؤكد أنه لن يكون لحزب أو قوة سياسية بمفردها أغلبية في البرلمان القادم، والبديل هو الائتلاف بين بعض الأحزاب والقوى السياسية والمستقلين لتكوين أغلبية في هذا البرلمان، وإن كان من الأفضل التنسيق بين القوى السياسية الوطنية قبل الانتخابات، وليس بعدها لضمان تحقيق أغلبية مريحة في البرلمان، وحتى لو تصورنا أن كل تصورات وتخوفات الفريق المعارض لإجراء الانتخابات البرلمانية صحيحة، فهل يكفي عام أو عامين لتغيير ثقافة الشعب حول أسس انتخاب أعضاء البرلمان، وهل تكفي هذه المدة للتواجد القوي للأحزاب سواء الأحزاب القديمة أو الجديدة؟

 

وهل تكفي هذه المدة لتقلب موازين القوى على الساحة السياسية؟ من الصعب تصور ذلك، فتغيير الثقافات والتواجد القوي يأتي بالتفاعل مع الناس في الشارع، ومن خلال الممارسة العملية، وهذا يستغرق وقتًا طويلاً، وعلينا ألا ننسى أن الأحزاب القديمة خاضت الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب، ولم تمر فترة طويلة عليها وأمامها حرية الحركة والعمل الآن بدون أي قيود، وبعضها تقدم بأعداد كبيرة نسبيًّا في الانتخابات السابقة مثل حزب الوفد الذي تقدم تقريبًا بـ200 مرشح، وأمامه الآن انتخابات تتوافر لها ضمانات النزاهة هو وغيره من الأحزاب الأخرى التي دخلت الانتخابات الأخيرة.

 

أما الذين يتخوفون من الصلاحيات الكبيرة لرئيس الجمهورية في الدستور فعليهم أن يدركوا أن وجود برلمان قوي سيحدُّ من سلطات الرئيس، كما أن بعض الصلاحيات الكبيرة التي كان يمارسها رئيس الجمهورية كانت تأتي بتفويضٍ من البرلمان، ولا أعتقد أن برلمانًا منتخبًا من جانب الشعب سيتنازل عن اختصاصاته ويفوضها للرئيس، كما أن الرئيس القادم يعلم جيدًا أنه سيخوض انتخابات بعد أربع سنوات، وأن أقصى مدة سيقضيها أي رئيس لن تتعدى ثمان سنوات، وفي كلِّ الأحوال فإن الضمانة الحقيقية للدستور والممارسة الديمقراطية هي وعي الشعب، وعلينا ألا ننسى أن الدستور المصري كان ينص على أن مدة الرئيس فترتين اثنتين فقط، ثم تم تعديلها لتصبح مفتوحةً دون تحديد، وتكرر الأمر ذاته في بعض الدول العربية التي كانت تحدد فترة الرئاسة بمدتين فقط.

 

إن علينا أن نعي جيدًا أن أي رئيس يتولى الحكم في مصر بعد هذه الثورة العظيمة يعي جيدًا دروس وعبر هذه الثورة.

 

إن الموافقين على التعديلات والرافضين لها متفقون على ضرورة وجود دستور جديد، ولكن الخلاف على التوقيت والكيفية التي سيصدر بها، ولكن لا أحد يطالب ببقاء هذا الدستورالحالي، إننا أمام خيارين اثنين:

 

- الخيار الأول هو رفض التعديلات الدستورية وبالتالي الدخول في المجهول؛ لأن رفض التعديلات لا يعني كما يتصور البعض عمل دستور جديد، بل سيعود الأمر للمجلس العسكري الذي سيقرر الخطوة القادمة.

 

- الخيار الثاني الموافقة على التعديلات الدستورية، وهو ما يعني أننا نسير في طريق واضح محدد المعالم، نعرف جميع تضاريسه ومحطاته منذ البداية وحتى النهاية، لذلك فإنني أؤيد التعديلات الدستورية.

 

----------

* مدرس التاريخ الحديث والمعاصر كلية التربية- جامعة دمنهور.