قالوا: "نريد أن نطمئن على أن الإخوان لن يحكموا.. نريد أن نطمئن أن الإخوان لو حكمونا لن يقطعوا يد السارق، ولن يحرِّموا الفن، ولن يمنعوا دخول السياحة.. نريد أن نطمئن على موقف الإخوان من المرأة والأقباط.. نريد أن نطمئن أن الإخوان لن يقفزوا على الحكم؛ لأنهم إن صعدوا فسوف يكسرون السلم خلفهم.. نريد أن نطمئن على أن الإخوان بعد التعديلات الدستورية لن يتشاركوا المقاعد مع الحزب الوطني إذا أُجريت الانتخابات بعد ستة أشهر"..
هذه العبارات بنصها أو معناها هي ما تتبادله الآن ألسنة معظم المحاورين والمعلِّقين والمنظِّرين والإعلاميين من معظم الأحزاب والتيارات المختلفة في الفضائيات والصحف الورقية والإلكترونية، وكأنها "أكليشهات" طباعية أو أحكام نهائية لا تقبل النقض أو الاستئناف، ويقيني أن الهدف من وراء هذا الرجم المستمر بهذه الادعاءات (ولا أقول الآراء) ليس هو الاطمئنان، وأيضًا ليس هو مناقشة التخوفات من صعود الإخوان (وكأنها ستتسلَّم الحكم في المساء)، ولكن لذلك هدفان:

 

الأول- والأهون رغم عِظمه-: هو دفع الإخوان إلى اتخاذ موقع المدافع عن النفس على طول الخط، ولذلك فائدتان بالنسبة لهم؛ الأولى: النأي بأنفسهم عن تلقي التشكيك في مواقفهم ونواياهم وتجشم مؤنة الرد والتبرير، والثانية هي الإيحاء للسامع أنهم فوق الشبهات طالما ظلوا يهاجمون، بينما الإخوان في موقف الدفاع.

 

والثاني- وهو الأهم-: هو الظهور بمظهر الخائف على البلد، الأمين عليها، الذي لا هدف له إلا أن يطمئن فقط، في مقابل الآخر المجهول الذي يحيط به الغموض، وتكتنفه الشبهات، وبالتالي ترتسم صورة ذهنية عند المتلقي الخالي الزهن إلا من بغبغاتهم، تدفعه في النهاية إلى أن يؤثر السلامة، ولأن الإنسان عدوُّ ما يجهل فإن لسان حاله يقول "اللي اعرفه أحسن من اللي معرفوش"، وما مثلهم في ذلك إلا كمثل زوج سيئ الخلق، يضرب زوجته ليل نهار، فلما اشتكت إلى القاضي ليطلقها، فإذا بالزوج يقول له: "بما أنك بلطجي إوعدني إنك مش هتقتلها"؛ أملاً في أن تصدقه الزوجة وتصبر على أذاه خشيةً ممن تجهله!!.

 

أما موقف الإخوان المسلمين، وهو الذي يدهشني، وأنا أتعجب من صبر متحدثي الإخوان المسلمين في مواجهة تلك الفرى وذلك الخطاب المستفز المستعلي؛ أعجب من طول بالهم وقدرتهم على مقاومة الملل من كثرة الرد عليها وتفنيدها مرات ومرات..!! فالإخوان المسلمون أطول الناس معارضةً، وأكثر الناس تعرضًا للعسف والتنكيل ومصادرة للحريات والأموال، وهم أكثر الناس شعبيةً؛ لأنهم الأكثر إحساسًا بمشكلاتهم، والأسرع في الأخذ بيدهم، والأقدر على التعبير عنهم، والجهاد في سبيل الارتقاء بهم اجتماعيًّا ودينيًّا، فلذلك حازوا ثقتهم، وفي المقابل ركنت رموز المعارضة إلى الاستئناس بالقرب الآمن من الحزب الوطني وأصنامه، والتفرغ للتنظير في وسائل الإعلام عن مساوئ الإسلام السياسي، وأهمية إقصائه عن العمل في الشارع، أوالوصول إلى مواقع ومناصب يستطيع منها خدمة الناس؛ حتى لا يصب ذلك في شعبيتهم، فجادت أيديهم بأرزاقهم ينفقونها عن طيب خاطر؛ حبًّا وكرامةً، لا لشيء إلا ابتغاء مرضاة الله، وحبًّا لقومهم، وطاعةً لرسولهم الذي يقول: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، سلاحهم الصبر الجميل، والأمل في فرج الله العظيم الجليل، ويقينًا بنصره الذي لا بد آت وإن كان الليل جد طويل.

 

فمن يأتي بعد ذلك ويقول نريد تأجيل الانتخابات لأننا نخشى أن يقفز الإخوان على كرسي السلطة، نقول له: وأين كنت طيلة الأعوام السابقة؟ وكم من السنين يكفيك لكي تصنع لك شعبيةً تطمئنك؟ وهل تتحمَّل مصر حالة اللا دولة وانعدام الأمن وفيروسات الثورة المضادَّة التي تعمل بجنون لاستعادة عرش الفرعون؟ وكيف لمن ملأ الدنيا بضرورة التخلُّص من حكم العسكر أن تأتيه الفرصة على طبق الفضة فيرفضها، ويتمنَّى على العسكر أن يظلوا في الحكم حتى يتسنَّى له القرب من الشعب والتعريف بنفسه؟

 

وكيف لمن صدَّعونا بالمطالبة بالديمقراطية ونعيمها والليبرالية وحضاريتها أن يقفوا حائط صدٍّ ضد تطبيقها ويتفقوا على إقصاء أكبر التيارات شعبية، ويبتدعوا لتنفيذ ذلك البدع حتى لو تخلَّوا عن مبادئهم المعلنة، يظنون أن الشعب قاصر سياسيًّا وغير جدير بالديمقراطية (كما قال نظيف قبل ذلك).

 

يا سادة.. نخبركم أن الشعب المصري شبَّ عن الطوق، ويعرف مَن عدوُّه ومَن حبيبُه، ومن هو الذي بين بين، يعرف من ضحَّى من أجله، ومن باعه على قارعة الطريق، أو في الغرف المغلقة.

 

الشعب المصري قام بثورة انبهر بها العالم الأول الذي أنتم به مبهورون.

 

الشعب المصري أزاح بحناجره وبصدره العاري أكبر الدكتاتوريات وأكثرها تسليحًا ضده.

 

الشعب المصري صبر صبر الجمال، وترككم تُنظرون وتتهوكون وتثرثرون، بينما فاجأكم بأنه الشعب المصري الذي هو خير الأجناد وأقدم المدنيات.

 

الشعب المصري يعرف الإخوان المسلمين، ويريد لهم أن يحصلوا على تطمينات بأن من احتلوا وسائل الإعلام لن يتحالفوا على إقصائهم؛ اعتمادًا على الميديا التي بأيديهم.

 

الشعب المصري يريدها ديمقراطيةً كاملةً، وليست على سطر دون سطر.

 

والشعب المصري الذي انتزع حريته سينتزع الديمقراطية من تحالف التخويف والتنظير والإقصاء.

 

من فضلكم الإخوان أيضًا يريدون أن يطمئنوا.