الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَنْ والاه.

وبعدُ؛ فها نحن أيُّها المصريون الأحرارُ نعيشُ ذكرى ثورتِنا البيضاءِ العظيمةِ، ثورةِ الخامس والعشرين من يناير، في ظلِّ معركةٍ شرسةٍ تقودُها الثورةُ المضادةُ بقيادةِ الانقلابِ العسكريِّ الدمويِّ وأيتامِ النظامِ المخلوعِ الذي ثار عليه شعبُنا العظيمُ، ويأبى قادةُ العسكرِ الانقلابيون إلا أنْ يُسْفِروا كلَّ حينٍ عن أطماعِهم الذاتيةِ وأحلامِهم الشخصيةِ الجامحةِ في استعبادِ الشعبِ، والسيطرةِ على مُقَدَّراتِه لصالحِ جَشَعِهم وإشباعِ غرورِهم ومطامِعِهم، ويأبوْن أنْ يرجعوا عن غَيِّهم وفسادِهم حتى لو أدَّى ذلك إلى أنْ يجعلوا الوطنَ أشلاءً ممزقَةً، ويُصِرُّون على السيرِ عكسَ التيارِ وعلى خلافِ كل معاني الوطنيةِ والإنسانية والرشدِ العقليِّ، وبالمخالفةِ لكلِّ دروسِ الماضي والحاضرِ التي أكَّدتْ أنَّ الشعوبَ حين تثورُ فإنها لا تهدأُ حتى تستخلص َكرامتَها، وتحققَّ أهدافَها، وتسْحَقَ المصادرين لحريتِها والمتكبرين عليها. 


اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ:
في ظل هذا التجبُّرِ الانقلابيِّ والانتشارِ الأهوجِ المتوتِّرِ لعصاباتِ الانقلابِ في طولِ البلادِ وعرضِها، يتساءل البعضُ بإشفاق: كيفَ يمكنُ هزيمة َكلِّ هذه الآلةِ الانقلابية؟.


ونقول في البداية: لَوْ شَاءَ اللهُ لَانْتَصَرَ من المجْرِمِينَ بِإِهْلَاكِهِمْ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ لَا جِهَادَ فِيهِ وَلَا عَمَلَ للمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يحْصُلَ التَّدَافُعُ لِيَبْلُوَ وَيَخْتَبِرَ بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ (محمد 4)، وما نحنُ فيه الآنَ هو حلقةٌ من حلقاتِ هذا التدافعِ الدائريِّ الذي لا ينتهي حتي يرثَ الله الأرضَ ومَنْ عليها.


وعاقبةُ هذا التدافعِ معلومةٌ يقينًا، وهي النصرُ لأهلِ الحقِّ الصابرين على الجهادِ والتضحيةِ في سبيله ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم 47)، ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ﴾ (غافر 51)، ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافات 173)، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء 105)، إلى غير ذلك من الآياتِ القاطعةِ بأنَّ نصرَ اللهِ حاصلٌ لا محالةَ للمؤمنين ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج 40-41)، وأنَّ هذا النصرَ وعدٌ من الله للمظلومين ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ (الشورى 39)، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ (الحج 60).


حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فِي الْمِحْنَةِ الْكَاشِفَة:
إنَّ هذا التدافعَ قد يطولُ، والمحنةَ قد تشتدُّ، وزمانَ الابتلاءِ والاختبارِ قد يمتدُّ؛ لا عَنْ غفلةٍ من الحكيمِ الخبير ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ (إبراهيم 42)، وإنما يتأخَّرُ الحسْمُ الإلهيُّ لِحِكَمٍ إلهيةٍ بالغة، منها: انكشافُ معادنِ الرِّجال، والتمايزُ في الصفوف، حيث يتميَّزُ الصادِقُون من الكاذِبِين، والمخلِصُون من الانتهازيِّين، والشُّجعانُ من الجُبَناءِ المتخاذِلين، والمجاهِدُون الحقيقيُّون من المدَّعِين المعَوِّقين الخانِعين، مع ما قدْ يُصاحِبُ ذلك من مُفاجآتٍ مُذْهِلةٍ تُحَيِّر أُولي الألْبابِ، فضلًا عن عُمومِ الناس، حين تتساقطُ كلُّ الأقنِعةِ عن الوجوهِ، وتَغْدو المحنةُ خافضةً لقومٍ رافعةً لآخرين، وتكشِفُ الشدَّةُ مَنْ بَكَى ممَّنْ تَبَاكَى ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة﴾ (الأنفال 42).


في ظلِّ اشتدادِ المحنةِ يقول مُدَّعُو الحكمةِ والحصافةِ والتحليلِ وقراءةِ الواقعِ والمآلاتِ من المنافقين المعوِّقين –وإنْ بلسانِ الحالِ الذي هو أبلغُ من لسانِ المقال- ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ (الأحزاب 12)، أما الثابِتُون المؤمِنُون الواثِقُون الموَفَّقون فيردِّدون بلسانِ الحالِ والمقالِ ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب 22).


صحيح.. ولكنَّ نصرَ اللهِ قريب:
صحيحٌ أنَّ ظواهرَ الأمورِ وموازينَ القُوَى الماديةِ على الأرضِ بين المفسِدين المدَجَّجينَ بأنواعِ الأسلحةِ الشَّرِهين إلى سفكِ الدماءِ، وبين ذَوِي العزائمِ الثائرينَ السلميِّين الحريصينَ على إحقاقِ الحقِّ –فضلًا عن امتدادِ الزمانِ بالمحنةِ- قد تُحرِّكُ في بعضِ المؤمنينَ دواعِي العجَلَةِ التي طَبَع اللهُ الإنسانَ عليها ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ (الإسراء 11)، ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ (الأنبياء 37)، وصحيحٌ أنَّ الأمانيَّ والرجاءَ في الله يدفعُهم إلى طلبِ الاستعجالِ لحسْمِ الأمرِ ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ (الأنعام 58)، وصحيحٌ أنَّ الضعفَ البشريَّ قد يمرُّ بقلوبهم، نتيجةَ أحداثٍ جِسامِ لم يتوقَّعُوها، أو أخطارٍ شديدةٍ تتهدَّدُهم ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ (الأحزاب10-11)، وصحيحٌ أيضًا أن البأْسَاءَ والضَّرَّاءَ التي تُصِيبُ أكابرَ المؤمنين جرَّاءَ تطاوُلِ المحنةِ قد تدفعُهم إلى السُّؤالِ عن ميقاتِ النصرِ الموْعُود ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ (البقرة 214).


كلُّ ذلك وغيرُه صحيحٌ، لكنَّ الصحيحَ أيضًا: أنهم لا يسْألون: متى نصرُ الله؟ شَكًّا في وعْدِ الله؛ بَل طَلَبًا لِلنَّصْرِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي»، والدعاءُ أحدُ أهمِّ الأسلحةِ في معركةِ الحقِّ والباطل.


والصحيحُ أيضًا: أنهم لا يَقِفون كثيرًا عند هذا الضعفِ البشريِّ الطارئِ، بل يستمسِكُون بالعُرْوَةِ الوُثْقَى، ويسترِدُّون بغايةِ السرعةِ ثقتَهم في وعْدِ الله، ثمَّ ثقتَهم في أنفسِهم وفي أُمَّتِهم، ويتَّخِذُون من الزِّلْزالِ بشيرًا بالنَّصْرِ، ويردِّدُون الوعدَ الإلهيَّ الذي جعله اللهُ إجابةً على السؤال: ﴿أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، ويُدْرِكون يقينًا أنَّ اشتدادَ المحنةِ بَشِيرُ زَوَالِها، ويؤكِّدُ أنَّ بينَهم وبينَ النصرِ مسافةً قريبةً جدًّا، عليهم أنْ يقطعُوها بالصَّبْرِ والثباتِ، فإنَّ بينَ النصرِ والهزيمةِ صبرَ ساعةٍ ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ (الأنعام 34)، فَمَنْ كَانَ أَصْبَرَ كَانَ بِالنَّصْرِ والتَّوْفِيقِ أَجْدَرَ ﴿وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ لِأَنَّ الْمُبْدِّلَ لِكَلِمَاتِ غَيْرِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قُدْرَتُهُ فَوْقَ قُدْرَتِهِ، وَسُلْطَانُهُ أَعْلَى مِنْ سُلْطَانِهِ، فمَنْ ذا يقدِرُ على تبديلِ كلماتِ الله؟ ﴿وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ ما يصفُ متاعبَ الطريقِ وعقباتِه، ويؤكِّدُ ما ينتظرُ المؤمنينَ بعدَ ذلك كلِّه في نهايةِ الطَّريق.


سنة لا تتخلف:
إنها سُنَّةُ الله تجرِي بالنصرِ للحقِّ والعدلِ في النهاية، ولكنَّها تجيءُ في مَوْعدِها، لا يُعْجِلُها عن هذا الموعدِ أنَّ الطيبينَ المخلِصين يتلَقَّوْن الأذَى والتكذيبَ والتنكيلَ، ولا أنَّ المجرمينَ الضالِّينَ والمضِلِّينَ يقدِرُون على أذى المخلِصينَ الأبرياءِ الطيِّبين، ولا يُعْجِلُها كذلك عن موعدِها صِدْقُ رغبةِ المخلِصين في هدايةِ قومِهم ولا صِدْقُ تألُّمِهم لما هم فيه من ضلالٍ وشِقْوَةٍ، وعلى ما ينتظرُهم من دمارٍ وعذابٍ في الدنيا والآخرة، فإنَّ اللهَ لا يَعْجَلُ لعَجَلَةِ أحدٍ من خلقِه، ولا مُبَدِّلَ لكلماتِه ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (يوسف 110)، حتى لو كان العددُ قليلًا والعُدَّةُ ضعيفةً، طالما انبعثتْ العزائمُ العظيمةُ تنصُرُ الحقَّ وتواجِهُ الباطل، فــ ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة 249)، والقرآنُ الكريمُ يقَرِّر أنَّ رُؤُوسَ الضَّلاَلَةِ حين يَسْتَفِزُّهم صبرُ أهلِ الحقِّ على الأَذَى، يلْجَؤُون إِلى آخرِ ما لدَيْهم، وهو التَّهْدِيدُ بالقَتْلِ وبِالنَّفْيِ وَالإِخْرَاجِ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فتحِقُّ عليهم كلمةُ الله بالهلاكِ والخُذلانِ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ (إبراهيم 13-14).


اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يا ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، والعِزَّةِ الَّتِي لا تُضَام، عَلَيْكَ بِالظَّالِمِينَ الانْقِلَابِيِّينَ، وبِمَنْ حَمَى لَهُمْ ظَهْرًا، وبِمَنْ أَطَاعَ لَهُمْ فِي البَاطِلِ أَمْرًا، وبِمَنْ سَوَّغَ لَهُمْ مُنْكَرًا، اللَّهُمَّ لَا تُصْلِحْ لَهُمْ عَمَلًا، ولَا تُحَقِّقْ لَهُمْ رَغْبَةً ولَا أَمَلًا، وَزِدْهُمْ يَا رَبَّنَا سُقُوطًا وفَشَلًا، ولَا تَرْفَعْ لَهُمْ رَايَةً، وَلَا تُحَقِّقْ لَهُمْ هَدَفًا ولَا غَايَةً، وأَخْزِهِمْ واجْعَلْهُمْ للنَّاسِ عِبْرَةً وآيَة، واكْشِفْ عَنَّا الْغُمَّةَ، واجْمَعْ لَنَا الْكَلِمَة، وَأّتِمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَة، واحْفَظْ بِلَادَنَا آمِنَةً مُطْمِئَّنَة.


وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.