لا شك في أن فوز حركة حماس بالأغلبية البرلمانية في الأرض المحتلة تضمن عقابًا شعبيًّا لحركة فتح والسلطة الفلسطينية؛ احتجاجًا على نمط قيادتها للمجتمع منذ اتفاق أوسلو عام ‏1993م، فقد طبعت العشوائية والفساد والتردد أداء السلطة الناطقة باسم فتح‏،‏ وفشلت هذه السلطة في القيام بوظائف القيادة بترددها وانقسامها وحروبها الداخلية الباردة وأحيانًا الملتهبة‏،‏ ولم تستطع إلهام الشعب الفلسطيني أو إلهاب حماسه أو تنظيمه تنظيمًا دقيقًا في سياق مرحلة الانتفاضة‏،‏ كما لم تستطع أن تمنحه حسًّا واضحًا بالاتجاه الصحيح لتطوره الوطني والاجتماعي‏،‏ بل ودفعت الأمور إلى حد الفوضي الأمنية والسياسية‏،‏ وهو ما شكَّل بذاته تهديدًا خطيرًا للمجتمع وللحركة الوطنية‏.‏

 

ولكن إلى أي مدى يمتد هذا الفوز الانتخابي لحركة حماس من ناحية عمق الانتصار ونتائجه ومستقبله؟ من الصعب التنبؤ بنتائج فوز حماس الانتخابي‏،‏ لأسباب كثيرة‏،‏ فهناك لاعبون آخرون في الصورة‏،‏ ولا شك في أنَّ بوسعِ الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وإسرائيل بالطبع التأثير على المستقبل السياسي للشعب الفلسطيني‏،‏ كما أنَّ هناك مصالح وقوى فلسطينية قد تدافع عن مصالحها بوسائل بعيدة عن الشرعية‏،‏ ولا يمكن استبعاد سيناريو الفوضي الممتدة أو حتى سيناريو الحرب الأهلية‏،‏ ولكن مهما يكن الأمر فلا يمكن قطع الطريق على التطور الطبيعي للمجتمع الفلسطيني‏،‏ والأرجح أن يؤدي فوز حماس إلى وراثة مكانة فتح في قيادة الحركة الوطنية والمجتمع في الأرض المحتلة خلال مرحلةٍ طويلة مقبلة‏،‏ إلا إذا تحققت معجزة، ونجحت حركة فتح والفصائل الأخرى المستندة إلى المرجعية الوطنية والمدنية الحديثة في علاج الأمراض الخطيرة التي أصابتها‏،‏ وإعادة تنظيم ذاتها‏،‏ من أجل خوض تجربة ديمقراطية ووطنية أصيلة‏،‏ فتصحيح مسار القوى المستندة إلى مرجعية وطنية ومدنية حديثة يحتاج إلى شيء لا يقل عن معجزة ليس في فلسطين المحتلة وحدها بل وفي معظم الدول العربية‏،‏ ولذلك يمكننا توقع أن يصبح فوز حماس مؤشرًا قويًّا على مرحلةِ جديدة من الحركةِ المجتمعية والوطنية في الأرض المحتلة بل وفي العالم العربي ككل‏،‏ ومرحلة جديدة في السياسة العربية‏.‏

 

وبرغم أنَّ الأرضَ المحتلة ليست حالة معزولة أو استثنائية فيما يتعلق بصعود تيار الإسلام السياسي في الساحة السياسية العربية فهي المرة الأولى التي ينتزع فيها هذا التيار المبادرة السياسية، ويفوز بالانتخابات العامة في العالم العربي‏،‏ وإذا راجعنا هذا الانتصار الانتخابي على ضوء السابقة الأولى التي وصل فيها التيار الإسلامي السياسي إلى السلطة بوسائل ديمقراطية‏،‏ وهي حالة تركيا فقد نجد أسبابًا مشتركةً وربما أيضًا ميكانيكية مشابهة‏،‏ فبرغم اختلاف حالة تركيا العلمانية في أكثر مؤشرات الوضع الاجتماعي والحالة الوطنية عن حالة الأرض المحتلة‏،‏ فإنَّ وصولَ التيار الإسلامي في تركيا إلى السلطة تمَّ بسبب فساد وبلاده وفشل الأحزاب التركية التقليدية بما في ذلك تلك الأحزاب التي قادت الحركة الوطنية وبناء الدولة التركية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى‏،‏ وقد عجزت هذه الأحزاب عن انتشال نفسها وبلادها من تلك الأمراض حتي بعد أن خسرت السلطة السياسية‏،‏ وقد أدَّى هذا الفشل إلى انصراف المجتمع التركي تمامًا عن هذه الأحزاب التقليدية‏،‏ وتفكك أغلبها‏،‏ وفي الوقت الحالي يكاد حزب العدالة والتنمية‏،‏ الإسلامي التوجه‏،‏ يحتكر الحياة السياسية وهو أمن من التحديات‏.‏

 

ومن هذا المنظور يمكن القول إنَّ السياسة التركية تشهد ميكانيكية مستجدة تمامًا؛ حيث مثل فوز التيار الإسلامي شيئًا أشبه بعملية الوراثة الكاملة للأحزاب الوطنية والعلمانية التركية التقليدية وتشكلاً جديدًا تمامًا للساحة السياسية التركية‏.‏

 

فما حدث في الأرض المحتلة ليس سوى تعبير عمَّا يُمكن أن يجري في العالم العربي ككل، كل ما هنالك أنَّ الظروفَ الخاصة بالأرض المحتلة فرضت مستوى عاليًا من الشفافية والنزاهة في إدارة العملية الانتخابية فأظهرت في فلسطين ما يخفى إلى حد ما في بقية الأقطار العربية‏،‏ وهو الهيمنة المتزايدة للتيار الإسلامي في الشارع العربي‏.‏

 

ولكن هل يمكن القياس على الحالة التركية؟

لقد تحدثنا عن متغير واحد يحكم هذا القياس‏،‏ وهو صعوبة علاج الخلل الجسيم في تكوين الدولة العربية الراهنة خاصةً في ظل قيادة تركز بصورة أحادية على الانتقال إلى رأسمالية الوكالات والمحاسيب ودون علاج مضاعفات الانتقال الاجتماعية والسياسية‏.‏

 

يحتاج علاج هذا الخلل في العالم العربي إلى معجزة‏،‏ أو بالتعبير السياسي إلى حلول مستجدة تمامًا- بل وعبقرية- لأزمة الدولة‏،‏ بما فيها الأزمة المستفحلة للأحزاب السياسية التقليدية‏،‏ وتبدو إمكانية إنتاج هذا الحل محدودة للغاية‏،‏ كما لا يتوافر أمامه وقت طويل قبل أن تقوم التيارات الإسلامية المعتدلة باكتساح الساحة السياسية‏،‏ فمن حيث المضمون لا يمكن استعادة هيبة الدولة وقدرتها على قيادة المجتمع دون تصحيح جوهري لمعنى الانتقال ذاته‏،‏ فالانتقال الفوضوي لرأسمالية الوكالات والمحاسيب يقود موضوعيًّا إلى تحلل المجتمع وتفككه واستمرار عجزه عن توليد تنمية رأسمالية حقيقية‏،‏ و كما أن الانتقال إلى الرأسمالية لا يمكن أن يحقق التوازن دون إصلاحِ مؤسسات المجتمع والدولة ودون تحقيق انتقالٍ موازٍ إلى الديمقراطية‏،‏ وبشرط أن يقود الانتقال الديمقراطي إلى انغراس الأحزاب السياسية في المجتمع وإبداع أسلوب لقيادة المجتمع لا يقل فعاليةً واقتدارًا عمَّا توفره التيارات الإسلامية‏،‏ ويحتاج هذا كله بدوره إلى رؤية خلاقة من جانب قيادات جديدة ومقتدرة‏.‏

 

أما الشرط الثاني فهو يتعلق بموقف النظام الدولي‏،‏ فقد يتورط النظام الدولي في تطبيق التهديدات اللاعقلانية التي أطلقها ضد فوز حماس بالانتخابات الفلسطينية‏،‏ وهو ما يظهره بمظهر العداء للديمقراطية في العالم العربي بعكس ادعاءاته المشفوعة بمشروع الشرق الأوسط الكبير، وقد يصل الأمر إلى حد دفع الموقف السياسي في الأراضي المحتلة إلى الحرب الاهلية أو الفوضي‏،‏ ولن يمثل هذا الموقف غير خيانة‏،‏ ليس فقط للقيم الديمقراطية وإنما أيضًا للعقلانية التي يفترض أنها تُمثل حجر الزاوية في الحضارة الغربية‏،‏ ولكن لا يمكن أيضًا استبعاد أن يُعيد الغرب تقويم الموقف بدقة‏،‏ فيراجع هذه التهديدات وينتهج موقفًا أكثر عقلانية فإذا كان الحفاظ على تطوير الدولة المدنية في العالم العربي هو الهدف فإنَّ الانتقالَ الديمقراطي الشكلي لا يكفي‏.

 

فما دام الضغط يتواصل على المجتمع الفلسطيني والمجتمعات العربية من خلال منهجية العنف الأمريكي والإسرائيلي وشعارات إسقاط الأنظمة وسياسات العقاب السياسي والاقتصادي‏،‏ سيصير منح الأصوات للتيار الإسلامي أمرًا حتميًّا في انتخابات ديمقراطية‏.‏

 

والبديل الحقيقي لهذه السياسات هو التعامل مع جذور الأزمة‏:‏ أي تقديم حل عادل وعقلاني للصراع العربي- الإسرائيلي‏،‏ ومساعدة المجتمعات العربية على تخطي أزماتها الاقتصادية الهيكلية‏،‏ ودعم الاختيار الديمقراطي في نفس الوقت‏.‏

 

أما المتغير الأخير والذي يحكم المستقبل السياسي العربي فهو أداء التيارات الإسلامية عندما تحصل على الأغلبية البرلمانية أو تصل إلى السلطة السياسية عبر آليات الديمقراطية‏،‏ في الأرض المحتلة سيكون تجنب الحرب الأهلية والفوضى والأخذ بأكثر الاختيارات عقلانية أمرًا جوهريًّا لتثبيت المكسب السياسي وتعميق شرعيته وتأمين النظام السياسي الفلسطيني في مواجهة ظروف تراجيدية‏،‏ وسواء فيما يتعلق بحماس أو بقية التيارات الإسلامية في العالم العربي يتحتم ابتكار حل للتناقض بين تعلقها بفكرة الدولة الدينية وقيامها بإنتاج خطاب مدني‏.‏
في الوقت نفسه‏،‏ يمكن لمثل هذا الحل أن يجسد ما يمكن تسميته ديمقراطية إسلامية تقارب أو تتجاوز الحل التركي‏،‏ فإذا حدث ذلك يدخل العالم العربي إلى عصرٍ جديدٍ بالفعل‏.‏

--------------

* نائب رئيس مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام

* نقلا عن جريدة الأهرام المصرية عدد 30/1/2006م