بقلم: عبد الفتاح نور أحمد (أشكر)

 

المساجد عند المسلمين جميعًا أماكن للعبادة والتبتل، وهي وظيفة المساجد الأساسية في المفهوم الإسلامي، إلا أنها في ذات الوقت تُعتبر عند الصوماليين معاهد علمية خرّجت– وما زالت- تخرج الكوادر الفكرية والدعوية في طول البلاد وعرضها، وذلك من خلال الحلقات العلمية التي تُقام على جنبات المساجد.

 

 

ومن هنا فقد أصبحت الصومال منذ وقت موغل في القدم قبلة يتوجه إليها طلبة العلم من مناطق شرق إفريقيا، وسواحل البحر الأحمر المجاورة له، خصوصًا في القرن السابع الهجري؛ حيث سجلت بعض المصادر رحلات جموع غفيرة من طلبة العلم إلى الصومال؛ لينهلوا المعارف على أيدي علماء جهابذة كانوا يقيمون حلقاتهم العلمية في مساجد مقديشو (هذه المعلومة وردت في كتاب المشرع الروي للشيخ فخر الدين محمد بن أبي بكر الشلي وهو أحد مؤرخي اليمن) التارخية التي من أهمها مسجد (حمروين) الذي يعود تاريخ بنائه إلى أول محرم من عام 630هـ، وكذلك مسجد عبد العزيز، ومسجد فخر الدين، ومسجد أربع ركن، ومسجد الأحناف (قام المستعمر الإيطالي بهدم هذا المسجد وبنى على أنقاضه مطعمًا أطلق عليه اسم "بارسوفيا" في مقديشو) الذي بناه الشيرازيون في القرن السابع الهجري في مقديشو.

 

 

وفي وقت لا حق بدأ العلماء الصوماليون يرتحلون إلى أقطار العالم العربي، وخصوصًا مصر والحجاز والعراق واليمن، للتزود من العلوم الشرعية والعربية، وقد أصبحت تلك الرحلات هي الأخرى روافد غدت الحلقات الشرعية بفنون ومعارف أضيفت إلى رصيد العلماء الصوماليين من العلوم العربية والفقه والدراسات الشرعية المتنوعة.

 

 

ولم يكن الصوماليون يعرفون– سابقًا- فكرة المعاهد والمدارس الدينية الرسمية التي يذهب إليها الطلبة، رغم أن جلّ من كان يقرأ الكتب العلمية الإسلامية في المساجد أيام ظهور موجات الصحوة الإسلامية في منتصف القرن الماضي كانوا من خريجي الجامعات والمعاهد الإسلامية، كالشيخ محمد معلم (أحد رواد الصحوة الإسلامية، ولد في مدينة بورهكبة في مناطق جنوب الصومال 1934، وفي عام 1958 انضم إلى جامعة الأزهر الشريف متخصصاً في علوم العقيدة والفلسفة، إقرأ مقابلة الزميل الصحفي أنور أحمد ميو في موقع الشاهد الإلكتروني الناطق بالعربية) الذي بدأ بتفسير القرآن في مسجد عبد القادر بعيل غاب الكائن في العاصمة الصومالية (مقديشو)، وكذلك الشيخ نور الدين علي علو (ولد الشيخ نور الدين علي علو في عام 1915 في مدينة جالكعيو بوسط الصومال، ويُعتبر علو أب الفكر السلفي في الصومال وأشهر منظري الفكر السلفي في الصومال على الإطلاق) الذي بدأ هو الآخر بحلقة علمية في مسجد أربع ركن بمقديشو، وخاض الشيخ علو معارك فكرية ضارية مع المتصوفة الذين تمركزوا في المساجد؛ حيث كانوا أصحاب الغلبة في المساجد آنذاك، ثم توافدت على الصومال دفعات من خريجي العلوم الشرعية في المعاهد والجامعات الخارجية التي لها طابع رسمي من حيث الانتظام وحضور قاعات الدراسة.

 

 

ورغم تشرب هؤلاء الخريجين بثقافة التعليم الرسمية، فإنهم جعلوا المساجد محاضن تربوية لتفريخ الأجيال، وهو ما قد تحقق لهم؛ حيث تتلمذ على أيديهم أفواج من الطلبة الصوماليين؛ الذين أصبحوا- فيما بعد- رواد الصحوة الإسلامية في الصومال.

 

 

البوادي والأرياف

 

 

وقد انتشرت فكرة اتخاذ إحدى زوايا المساجد معهدًا دينيًّا في البوادي والأرياف، ولعل السبب في ذلك هو طبيعة المجتمع الصومالي؛ الذي يعتمد على الرعي، وهو مجتمع متنقل يجري وراء الكلأ والماء، ومع تنقلهم الكثير لا تترك الأسر فرصة تعليم أطفالهم القرآن الكريم، وتتفق الأسر مع معلم القرآن ليعلم أطفالهم القرآن، وعندما يحفظ الطفل القرآن عن ظهر القلب، يتلقى المعلم (قطيع من الماشية مكونة من الماعز والبقر والإبل) مكافئةً له على ما قام به من جهود تعليمية جبّارة.

 

 

ولا تتوقف مسيرة الدراسة لدى الصوماليين عند هذا الحد، حيث يبدأ أحد الشيوخ أو ما يسمى عند الصومالين بـ(وداد) (يورد الكاتب جامع عمر عيسى في كتابة تاريخ الدراويش وسيرة السيد محمد عبد الله حسن، أن الدرجات العلمية في الشريعة الإسلامية عند الصوماليين تنقسم إلى (وداد، الشيخ، معلم، الحاج، أو) وهي درجات علمية متناولة عند الصوماليين: انظر ص 35 من الكتاب المذكور) بحلقة علمية يقرأ فيها كتب الفقه، واللغة، والحديث، والتفسير، ويستمع إليه ما اصطلح فيما بعد بـمجموعة "الحِر" بكسر الحاء وهم طلاب الشيخ الذين يتحلقون حوله، وبعد أن ينال الطفل على يد هذا الشيخ بعضًا من الدروس الفقهية واللغوية، تبدأ مسيرة التعليم الأساسية؛ حيث ينال دروسًا متقدمة مما ناله سابقًا من العلوم الشرعية.

 

 

وأصبحت ثقافة التعليم الريفي متجذرة في أعماق الجيل الأول من رجال الصحوة في الصومال؛ حيث قال الشيخ محمد معلم في مقابلة له مع إذاعة (البي بي سي القسم الصومالي) إنه وقبل ذهابه إلى جامعة الأزهر الشريف كان يعرف جميع فنون العلم الشرعي؛ ما عدا مادة الأدب العربي، التي لم تكن متداولة في الحلقات العلمية المقامة في البوادي والأرياف وقتذاك.

 

 

الصحوة الإسلامية والمساجد

 

 

ولجأت الصحوة الإسلامية في بداية تشكلها في الصومال إلى المساجد، كمسجد الشيخ علي صوفي، ومسجد المرواس ومسجد العيل هندي، ومسجد "الجبرتي" في حمر ججب، وكان مسجد الجبرتي نقطة انطلاق "حركة الأهل" (تعتبر حركة الإهل أول تنظيم حركي يعود تاريخ تأسيسه إلى عام 1968، وكان تيارًا فكريًّا يضم في جنباته تيارات فكرية إسلامية من صوفية وسلفية وإخوانية، وكان هدفه المحافظة على أخلاقيات الشباب الصومالي، والتصدي لهجمة الشيوعية على معتقدات الصوماليين) أول تنظيم حركي عرفته الصومال في أواخر السستينيات من القرن الماضي.

 

 

وكان الفكر الماركسي بقيادة الرئيس محمد سياد بري في سبعينيات القرن الماضي في أوج عنفوانه، وكان لزامًا على رجال الصحوة- حسب ما يقوله الداعية والمؤرخ الصومالي صادق محمد- (ذكر د. صادق أينو هذه المعلومة في مقابلة أجريتها معه العام الماضي ومنشورة حاليًّا في موقع الشاهد الإلكتروني) وجود مراكز تكون منطلقًا لأفكار الشيوخ والعلماء الذين عادوا من بلاد العرب المجاورة، وعادت للمساجد دورها، وبدأت حلقات علمية تُقام من جديد في جنبات تلك المساجد بعد أن انتهج رجال الصحوة الأوائل بفكرة اتخاذ المساجد مراكز لتقويض الفكر الشيوعي.

 

 

ومع مرور الزمن تحولت المساجد إلى مراكز استقطاب فكري، وذلك عندما تسربت إلى صفوف رجال الصحوة في الصومال فكرة التيارات، من سلفية وإخوانية وغيرها، وأخذت المساجد على عاتقها دور نشر دعوة المدارس الفكرية المختلفة في الصومال.

 

 

ورغم مآخذ هذا الاستقطاب الفكري، لكن المجمع عليه هو الدور الإيجابي الذي حملته المساجد على عاتقها إبان تغلغل الفكر الشيوعي في أوساط المجتمع الصومالي أيام حكم نظام سياد بري الشيوعي.

 

 

ومما أعطى المساجد الزخم والاهتمام الزائد وجعلها منارات علمية يلجأ إليها الطلبة، هو غياب مؤسسات رسمية تتولى أمر تدريس الدراسات الإسلامية، فكانت في الصومال كله جامعة واحدة، وهي الجامعة الوطينة التي كان فيها كلية وحيدة للدراسات الإسلامية، وكان يُدرسها أكاديميون مصريون ابتعثتها وزارة التربية والتعليم المصرية.

 

 

وفي ظل الندرة الملحوظة للتعليم الأكاديمي الرسمي المموّل من قبل الدولة، أُلقيت على عاتق المساجد مهمة تدريس الدراسات الإسلامية من خلال الحلقات العلمية التي أُقيمت في أماكن عدة من الصومال.

 

 

دور المساجد بعد انهيار الحكومة الصومالية

 

 

لعبت المساجد دورًا محوريًّا بعد انهيار الحكومة الصومالية في بداية التسعينيات، وأصبحت المساجد تتمتع بزخم معنوي؛ نتيجة اعتماد المجتمع على الحلقات العلمية التي بدأت تنطلق في المساجد من جديد في ظل غياب الرقيب السلطوي، الذي كان يفرض سيطرته الأمنية على المساجد في العاصمة الصومالية.

 

 

واستعادت المساجد مجدها من جديد، وأصبح كل تيار فكري ينشر من خلال المساجد أفكاره التنظيمية؛ حيث بدأ التيار السلفي بتنظيم حلقات متفرقة في أصقاع البلاد، تركزت على قراءة كتب العقيدة، ظنًا منهم بأن المجتمع أحوج ما يكون إلى تقوية عقيدته أمام هجمة التصوف الفكرية.

 

 

وقام المتصوفة بتنظيم حلقات علمية، وأشهر علمائهم الفكريين الذين بدؤوا الحلقات في مقديشو بعد انهيار الحكومة الصومالية هم: الشيخ عثمان حيدك، والشيخ إبراهيم معلم، والشيخ عبد الله إبراهيم وغيرهم من علماء التصوف في البلاد.

 

 

ولم تكن حركة الإصلاح (الإخوان) تغرد خارج السرب؛ حيث بدأ الدكتور إبراهيم الدسوقي بإقامة حلقة علمية في مسجد الشيخ علي الصوفي بمقديشو، وكان الدكتور يقرأ كتاب "الرحيق المختوم" الذي حظي بإقبالٍ منقطع النظير في أوساط المجتمع الصومالي.

 

وما زالت المساجد تؤدي- حتى الآن- دورها التعليمي رغم كثرة الجامعات والمعاهد العلمية، التي افتُتحت في العديد من المناطق الصومالية، وسيحظى المسجد في الصومال باهتمام الصوماليين؛ خاصة الفئات المتعلمة والمتدينة.

 

  • ئباحث وكاتب صحفي صومالي.