 تشخيص الظاهرة.

 ـ لقد شاع بشكل ملحوظ ظاهرة قيام بعض الأفراد بقتل الأطفال والشيوخ والنساء بهدف سرقة المال والمجوهرات وما فى حكم ذلك بسبب الحاجة على حد قولهم.. ولقد هان كل شئ حتى النفس التى حرم الله إلاّ بالحق من أجل  الحصول على مال  أو متاع للوفاء بحاجاته من الضروريات والحاجيات المعيشية على حد قولهم، وفى هذا صراع بين القيم الإنسانية وبين الحاجات الاقتصادية.
 ـ كما شاع التغرير بالفتيات والنساء والاعتداء عليهن مقابل وعود كاذبة منها المال والجاه  ولقد هان أقدس شئ عند المرأة من أجل الإغراء بالمال، وفى هذا تحدى بين حفظ العرض وبين شهوة المال.
 ـ كما انتشرت الرشوة والاعتداء على الأموال بالسرقة والاختلاس مع التضحية بالقيم الأخلاقية، فيضحى الموظف بسمعته وحاجه وعزته وكرامته من أجل دراهم سوف تنتهى قبل الأجل أو معه.
 ـ فما من يوم تطلع فيه الشمس إلاّ وتطالعنا الجرائد بأخبار فيها الاعتداء على الدين والعقل والنفس والعرض والمال … وهكذا تنتهك مقاصد الشريعة الإسلامية من أجل الحاجات الاقتصادية اللازمة للحياة.
          ويتساءل الناس :
 - ما أسباب  هذه الظاهرة النكراء ؟ هل الحاجة الاقتصادية تقود إلى مفاسد أخلاقية؟
ـ ما هو المنهج الإسلامي للعلاج ؟.
 هذا هو ما سوف نتناوله فى هذه المقالة بشىء من الإيجاز فى ضوء الواقع وبيان المنظور الإسلامى لمعالجتها  في ضوء القرآن والسنة والفقه.

 

 ما هى أسباب جريمة الاعتداء على النفس والعرض من أجل المال  ؟          ( الصراع بين الحاجة الاقتصادية والقيم الأخلاقية )
        من أهم أسباب هذه الظاهرة ما يلى :
أولاً : ضعف القيم الإيمانية فى قلوب المعتدين، وسيطرة قوى الشيطان والشر وحب المال فتنساق الجوارح فى اتجاه البغى والفحشاء والمنكر فتضل وتسرق، ولقد زين لهم الشيطان سوء أعمالهم... وأضلهم عن السبيل... ولقد شخص ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) " لا يسرق السارق وهو مؤمن، ولا يزنى الزانى وهو مؤمن " ويفهم من هذا الحديث الشريف أنه فى لحظة ارتكاب الجريمة أيّا كان نوعها يفرغ القلب من الإيمان ويسيطر عليه الشيطان.
ثانياً : انتشار الفساد الأخلاقى فى البر والبحر وفى كل مكان، وتكونت له عصابات تخطط وتنظم وتنفذ.. ومن نماذج ذلك الخيانة والكذب والتدليس والغش والنفاق.. فعندما يسيطر الكفر والفسوق والعصيان على القلوب ينتشر المنكر والبغى والفحشاء، وتؤدى مفاسد الأخلاق إلى جرائم اقتصادية..
ثالثاً : هيمنة القدوة السيئة على بعض مواقع المسئولية وفى الشركات والوزارات والمصالح وصدق من قال : إذا كان رب البيت بالدف ضارباً  &  فشيمة أهل البيت الرقص...... فإذا كان المدير أو الوزير  أو الرئيس لصاً ومرتشياً ومعتدياً، وإذا كان الأب سيىء الأخلاق.. فهذا فى معظم الأحيان يقود إلى تنشئة أجيال سيئة تقتل وتعتدى.. ويقولون إنَّا وجدنا آبائنا وسادتنا كذلك يفعلون.
رابعاً : ضعف العقوبات المقررة بالقوانين الوضعية بعد أن نُحيَّتْ الحدود والتعزيرات الشرعية جانباً.. ( إن تطبيق شرع الله كفيل بحماية النفس والمال والعرض ) فالسارق والمعتدى يدخل السجن أياماً معدودات ويخرج منه محترفاً وأكثر كفاءة فى مجال الاعتداء والسرقات , أو تعطيل تطبيقها بسبب الوساطة والمجاملة أو غير ذلك.
خامساً : الفقر والجهل والمرض.. بمعنى عدم كفاية الحاجات الأصلية للإنسان وهى المأكل والمشرب والمأوى والتعليم والعلاج.. فتسول للإنسان الفقير المحتاج نفسه الأّمارة بالسوء بأن يعتدى على الآخرين ليكفى حاجات نفسه وأسرته.. وهذا أمر مرفوض شرعاً ولكن هذا هو الواقع الذى نعيشه فى معظم الأحيان.
سادساً : وسائل الإعلام السيئة التى تربى عند الشباب حب ارتكاب الجرائم والتقليد الأعمى لما يحدث فى دول أوربا وأمريكا وغيرها التى يشيع فيها انتهاك الأعراض والاعتداء على الأنفس والأموال، كما تثير هذه الوسائل عند الأفراد الكثير من الرغبات المكبوتة والتطلع للمزيد من وسائل الترف والمتع وعدم القناعة بما لديهم.
سابعا : الظلم الاجتماعى والقهر الاقتصادي ولا سيما الاحتكار ذو النفوذ السياسي وتقصير بعض مؤسسات المجتمع المدني بدورها تجاه الفئات المهمشة التي تخلت عنها الحكومة.
هذه الأسباب فى مجملها تعتبر من منظور الإسلام رذائل، وبلغة رجال الدين تعتبر من كبائر الذنوب والتى تقود كما قال العلماء إلى ارتكاب الجرائم الفظيعة التى نقرأ عنها ومنها الجرائم الاقتصادية، فيضحى بالنفس البشرية من أجل المال قل أو كثر، ويضحى بالسمعة والجاه من أجل المال.. وهكذا تتفاعل الأخلاق السيئة مع المفاسد الاقتصادية.

 ما هو العلاج ؟ ما هو السبيل ؟ ما هو الخلاص ؟ من المنظور الإسلامي.

يقول علماء الدين والدعوة الإسلامية وعلماء النفس : أن العلاج الحقيقى فى التربية الصالحة الفعالة فى البيت وفى المدرسة أولاً ثم التوعية والتذكرة فى مجالات العمل ثانياً، ثم المتابعة والمراقبة والتقويم المستمر فى كل وقت وحين ثالثاً  , ثم تطبيق نظام العدالة الاجتماعية في الإسلام ومن أدواته : توفير حد الكفاية لكل إنسان وتطبيق نظام زكاة المال والصدقات والوقف الخيري ونظام الكفايات وغيرها.
ومن المنظور الإسلامى.. يمكن وضع مجموعة من المبادئ التى تساهم بدور فعال فى علاج هذه الظاهرة الشنيعة.
 ـ على مستوى البيت : يجب أن يهتم الأباء بغرس القيم الإيمانية والأخلاقية والسلوك السوى عند الأولاد منذ النشأة : ولاسيما ما يتعلق بحرمات الله.. ومراقبة الله، ومحاسبة الله فى الآخرة.. إلى غير ذلك من القيم والمعانى الفاضلة والتى تغرس فى قلوب ونفوس الأطفال نفحات الخير.. ويقول رجال التربية والتعليم : " إن التعليم فى الصغر كالنقش على الحجر "، كما يجب أن يكون للوالدين برنامج تربوى منزلى لتحصين الأولاد ضد ارتكاب الجرائم والرذائل.
 ـ على مستوى رياض الأطفال وكتاتيب تحفيظ القرآن وما فى حكم ذلك : هذه الأماكن ذات جدوى إيجابية فى تعويد الأطفال وتربيتهم وتعليمهم القيم الإيمانية والأخلاقية من خلال برامج الترويح واللعب والتعليم.. وتساهم شرائط الفيديو والكمبيوتر المخصصة للأطفال بدور فعال، كما أن اختيار مربية ومعلمة القرآن ومن تعمل فى مجال رياض الأطفال على أساس الدين والأخلاق له دور مؤثر جداً جداً فى تحصين الأطفال ضد الرذائل.. وعندما يتكامل دور البيت ودور كتاتيب تحفيظ القرآن ورياض الأطفال الإسلامية تكون الحلقة قد اكتملت : إن تعاون الأم فى البيت مع المعلمة فى الحضانة يحقق بناء قاعدة إيمانية أخلاقية عند الطفل يستطيع من يأتوا بعدهم البناء على أساس سليم.

 ـ على مستوى المدرسة والمعهد والكلية : يجب أن تدرس مادة الدين  والأخلاق فى المدارس والمعاهد والجامعات.. وما فى حكم ذلك وأن يكون لها الاهتمام الأوفى، ولا يجوز النظر إليها على أنها فى مرتبة متدنية بالنسبة للعلوم الأخرى كما هو الحال الآن، كما يجب أن تدرس بمنهجية جديدة ـ ليست كثقافة دينية ولكن كمنهج حياة.. وأن يختار لها أفضل الأوقات وأفضل المعلمين والمعلمات.. ولا يجب أن نهمل نسبة 95% من أولادنا من تعليم الدين الإسلامى من أجل 5% آخرين لا يريدون الاهتمام بدينهم.. علماً بأن جميع الشرائع السماوية تحض على القيم والأخلاق والمثل العليا، إذا كانت المدارس والمعاهد والكليات فى الدول غير العربية والإسلامية بدأت تهتم بعلم الأخلاق ويعتبرونه مناط الأمل والتقدم والرقى.. فنحن أولى بذلك، ما ظهرت مدرسة جديدة فى عالم الاقتصاد تنظر إلى الأخلاق على أنها أساس التنمية الاقتصادية ويقولون أخلاق حسنة تقود إلى تنمية الاقتصادية أفضل. 
 ـ على مستوى مواطن العمل : فى المصنع والمتجر والمصلحة الحكومية والوزارة والرياسة.. يجب أن توضع برامج توعية مستمرة تقوم على أساس الدين والأخلاق.. فقد قال رجال الأعمال حديثاً : أخلاق حسنة تقود إلى معاملات حسنة.. فإذا كان صاحب العمل ووكيل الوزارة يهتم بالنظم واللوائح والطرق والأساليب وتكون الترقيات إلى المناصب العليا مرهونة بمن يتفوق فى الالتزام بها.. ألم يكن من الأجدر الاهتمام بالدين والأخلاق كذلك، ولقد قال أجدادنا : " الأدب فضلوه على العلم "، ونقول نحن :" القيم والأخلاق أولاً ".
 ـ اختيار العامل والقيادة على أساس القيم والأخلاق : فعندما تولى عمر بن الخطاب أمور المسلمين، اختار أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) ليعاونوه فى المسئولية وقال : " إذا لم استعن بأهل الدين على أمور المسلمين فبمن أستعن "، فالكفاءة الفنية وحدها لا تكفى يل يجب أن تحاط بالقيم والأخلاق.. فإذا كنا لا نأمن الإنسان العامل والموظف دين الله، فهل نأمنه على المال، فإذا كان سىء الأخلاق، فسوف يكون كذلك سىء المعاملة مع المال الذى يتعامل به.
 ـ الاستعانة بأساليب التقنية الحديثة فى مجال التربية الدينية والأخلاقية : فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها، لذلك يجب الاستعانة بالتكنولوجيا الحديثة لتذكير أصحاب القلوب المريضة والنفوس الضعيفة بالعقاب فى الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون.. هؤلاء الذين تسول لهم أنفسهم بقتل الأطفال والشيوخ أو النساء.. من أجل دراهم معدودة، وهؤلاء الذين يعتدون على المال العام والمال الخاص بالسرقة والاختلاس.. يجب أن ينذروا بالعذاب الأليم يوم القيامة وفى، هذا المقام يجب على القائمين على أمر أجهزة الإعلام إعادة النظر فى نوعية البرامج وتسخير التكنولوجيا فى التوعية السليمة التى تقود إلى حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.

 

 

 حلقة العلاقة السببية بين الرذائل الأخلاقية والمفاسد الاقتصادية. 
نعم إن الرذائل الأخلاقية تقود إلى المفاسد الاقتصادية، كما أن إلحاح الحاجات الاقتصادية الأصلية للإنسان وعدم توافرها لدى الفقراء وما فى حكمها تقود أحياناً عند بعض الناس إلى الرذائل الأخلاقية، وهذه حلقة لا تنتهى إذا استمر الحال كما هو عليه.


والشكل البيانى هذا يفسر هذا
ولابد من تغير اتجاه الحلقة عن 
طريق الأخلاق الحسنة الفاضلة التى تقود إلى


تنمية اقتصادية حسنة وتوفر للإنسان حاجاته الأصلية،وتبدأ دورة جديدة كما هو موضح بالشكل التالى :

 

 

 حتمية التغيير من أجل الإصلاح. 
بمعنى يجب أن تنتقل من الحلقة الأولى إلى الحلقة الثانية، ولن يتحقق ذلك إلاّ بعد أن نغير الأخلاق السيئة بالأخلاق الحسنة وهذا ما أكد عليه الله سبحانه وتعالى فى قوله : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)    ( الأعراف )، ولقد شكا قوم نوح من الفقر والفاقة فقال لهم سيدنا نوح عليه السلام كما ورد فى القرآن على لسانه : فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10 ) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ ويجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً (12)     ( نوح )، ولقد روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) أحاديث كثيرة فى هذا المضمون، منها قوله(صلى الله عليه وسلم ) : " وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم الرزق قد هيىء له "، وقوله ( صلى الله عليه وسلم  ) : " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ".
 

 المنهج الإسلامي لعلاج مشكلة : الحاجة الاقتصادية والفساد الأخلاقي
 

إن علاج ظاهرة  الحرابة والبلطجة  ومن صورها على سبيل المثال :قتل الأطفال والنساء والرجال من أجل الحصول على  أموالهم ومجوهراتهم  ونحو ذلك،، والاعتداء على المال الخاص و العام بالرشوة والاختلاس والسرقة.. وهكذا  , يكون على النحو التالي:
  أولاً : الاهتمام بالقيم  الإيمانية والأخلاقية،
 ثانياً توفير الحاجات الاقتصادية الأساسية للإنسان أى توفير الحقوق الاقتصادية للأفراد.
     ولقد عالج الإسلام هذه الظاهرة من خلال التربية الإسلامية ونظام زكاة المال
    ونظام الصدقات ونظام الوقف ونظام الوصايا  ونظام الكفايات وكافة سبل التكافل                               الإجتماعي.
ولذلك فإن القول بأن الرذائل الأخلاقية  تؤدي إلى المفاسد الاقتصادية صحيح، كما أن نقص الحاجات الاقتصادية للفقراء والمساكين تقود إلى مفاسد أخلاقية فى بعض الأحيان.
فإلى الإسلام أيها الراغبون فى علاج المجتمع من سوء الأخلاق ومفاسد الاقتصاد، وصدق الله القائل: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى (124)   ( طه ).
وندعو الله سبحانه وتعالى بالمأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اللهم إنا  نعوذ بك الكفر والفقر " , " اللهم اغننا بحلالك عن حرامك , واغننا بفضلك عن سواك ".
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
-----------
الأستاذ بجامعة الأزهر.
•